رحيل “الرفيق” كيسنجر عراب الصين!

رئيس الصين شي جيبنبغ في آخر لقاء مع كيسنجر في بيجين يوم 20 يوليو 2023 (صحف صينية)

استحوذت وفاة هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في 30 نوفمبر الماضي، عن عمر يناهز 100 عام و5 أشهر، على تغطية الصحف والميديا، إذ طغت الكتابة حول مسيرته، على ما عداها من أنباء، رغم وجود حربين في غزة وأوكرانيا واضطراب اقتصادي حول العالم، بما يعكس مدى الإثارة حول شخصية مركبة، خلفت إرثا يدفع كارهوه قبل محبيه إلى ملاحقة ما يدور بشأنه.

بين وصفه بثعلب الدبلوماسية، وعراب “البراغماتية” و”الاحتواء المزدوج”، تبقى شخصيته مثيرة للجدل، من معجبين بعقليته الانتهازية وبراعته في هندسة الانقلابات، وإشعال حروب أهلية وإقليمية، وإبرام معاهدات كبرى. ساهمت أفكاره بانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، وأخرى أهلته للفوز بجائزة نوبل للسلام عام 1973، مع ذلك ظل ملاحقا قضائيا باعتباره مجرم حرب، ومسؤول عن مجازر بشرية منعته حتى مماته، من السفر لدول كثيرة.

تظل الصين من أكثر الدول ارتباطا بالثعلب العجوز، الذي أصبح أول يهودي مجنس، بعد فراره من ألمانيا النازية، ينقلب إلى مسؤول سياسي ليصبح مستشارا للأمن القومي عام 1969، ويجمع بين منصبه ووزارة الخارجية حتى يناير 1977، ويواصل تأثيره في أروقة السلطة لنحو نصف قرن وقبيل وفاته بأيام.

صديق الصين القديم

أجرى رئيس الصين شي جينبنغ اتصالا بنظيره الأمريكي جون بايدن، لنعي “صديق الصين القديم” باعتباره ” خسارة فادحة” لأحد الروابط المفضلة بين بيجين وواشنطن، الذي قدم مساهمات تاريخية في تطبيع العلاقات التي أفادت البلدين وغيرت العالم”. شارك بالتعازي لي تشيانغ رئيس الوزراء ووانغ يي وزير الخارجية، وسفير الصين بواشنطن، وبدت وسائل الإعلام الصينية منافسة للحفاوة بالإعلام الغربي، الذي يحظى فيه باهتمام واسع لعلاقاته الشخصية الوثيقة بنخبته، وروابطه باللوبي اليهودي الذي يتحكم في نحو 90٪ من المنصات الإعلامية الدولية.

قالت الصين إن كيسنجر زارها أكثر من 100 مرة منذ رحلته السرية إلى بيجين عام 1971، التي مهدت لاستعادة العلاقات الرسمية، بعد مقابلة الزعيم ماو تسي دونغ. تابع 500 مليون صيني، الخميس الماضي، وفاته على موقع ” ويبو” المناظر للفيسبوك. تحدث المختصون عن دور كيسنجر في انفتاح الصين على الغرب واقتصاد السوق، بعضهم يشيد بدوره في استبدال المواجهة الأيديولوجية بين الشيوعية والرأسمالية، لنهجه البراغماتية، التي مكنت الطرفين من إقامة علاقات أكثر استقرارا على مدار سنوات مشيدين بدوره في تهدئة المنافسة الحادة التي نشبت مع واشنطن منذ عام 2017، والترتيب السلس للقاء عقد بين بايدن وشي بقمة “أبيك” لدول آسيا والمحيط الهادي، مطلع نوفمبر الماضي.

قابل كيسنجر “شي” في 20 يوليو 2023 بعد بلوغه المائة بأربعة أسابيع، وللمرة الأخيرة. واتفقا على لقاء يعقد على هامش “أبيك” لم يتم لمرضه، قدم خلاله استشاراته الجيو- سياسية مدفوعة الأجر، بأن تتبع الصين سياسة التنافس في إطار التعايش، والتي يرددها تلميذه وزير الخارجية الأمريكي بلينكن بــ” التعايش التنافسي”.

في آخر وصاياه دعا ” شي” بأن يتفق مع ” بايدن” على وضع قواعد استخدام الذكاء الاصطناعي بالأسلحة النووية، التي ظلت تؤرقه بالسنوات الخمس الأخيرة، خشية اندلاع حرب نووية بأخطاء آلية مصادفة، بعد مهاجمة نظريته لــ ” الحرب النووية المحدودة” التي أطلقها لتخويف الصين والاتحاد السوفيتي السابق أثناء الحرب الباردة.

دبلوماسية البينغ بونغ

تجاهل الصينيون وغيرهم أي ذكر لدور الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، صاحب مبادرة الانفتاح على الصين، التي صعدت على السطح بلقائه الزعيم ماو تسي دونغ فبراير 1972. الكل يتذكر دبلوماسية ” البينغ بونغ” التي شهدت دعوة تشو إن لاي رئيس وزراء الصين لفريق أمريكي كان يلعب في اليابان إلى زيارة بيجين في ربيع 1971، لبدء صفحة تاريخية من العلاقات. ظهر كيسنجر في مواجهة مع تشو إن لاي، بين اللاعبين، بينما كان نيكسون المحرك للعبة، يواجه كارثة خسائر واشنطن في حرب فيتنام وتدهور العلاقات مع الاتحاد السوفيتي والهند وتايلاند وكمبوديا وكوريا الشمالية. أظهر مقال رصين عثرنا عليه في مجلة ” فورن أفيرز” الأمريكية بقلم ريتشارد نيكسون، بعدد أكتوبر 1967، أثناء شغله منصب نائب الرئيس والمرشح المحتمل للرئاسة بانتخابات 1968، بعنوان “آسيا بعد فيتنام” بأنه ينظر إلى آسيا من منظور عالمي أوسع- قبل غيره بعقود- في ظل تطورها واتساعها المذهل، بأن تعترف الولايات المتحدة لدول المنطقة بأن تصبح قوة موازنة للغرب. توقع نيكسون أن تشارك الصين واليابان والهند والولايات المتحدة، بتحديد مستقبل آسيا، قائلا: “نحن ببساطة لا نستطيع أن نترك الصين إلى الأبد خارج أسرة الأمم لرعاية أوهامها، ونعتز بكراهيتها وتهديد جيرانها، فلابد من عدم تركها معزولة وعلى السياسة الأمريكية أن تتغير تجاهها، لأن العالم لن يكون آمنا ما لم تتغير الصين”.

ثورات الربيع العربي

يقول السياسي العتيق، جوزيف ناي تلميذ كيسنجر وزميله بعد ذلك في التدريس بجامعة هارفارد، “إن لدى نيكسون وكيسنجر الرؤية ذاتها حول إعادة دمج الصين بالنظام الدولي، بما دفعهما إلى تجاهل الطبيعة القبيحة لنظام ماو تسي دونغ الشمولي. كان نيكسون يكره الشيوعية، ويعتقد أن انفتاح الصين سيدفعها إلى تغيير اجتماعي واقتصادي، يؤدي بالحتمية إلى تغيير النظام الاستبدادي، والتوجه نحو الديمقراطية.

كره الصينيون نيكسون لامتلاكه علاقات قوية مع قوى معارضة بالداخل، تسببت بإقصاء تشو إن لاي خريج “السربون” بباريس، فور الترحيب بنيكسون ومباحثات ممتدة مع كيسنجر مهدت للانفتاح على الغرب، وحصول بيجين على مقعد دائم بمجلس الأمن، بدلا من تايوان.

ابتعد الصينيون عن نيكسون، كما فر محرضه كيسنجر على التجسس على معارضيه بعد فضيحة “ووتر جيت” لطبيعته الحذرة والمريضة بالتلصص على موظفيه وخصومه وفوبيا اضطهاد اليهود، ليستمر في السلطة 8 سنوات، ومستشارا دائما لكل رؤساء الصين وأمريكا، لمدة نصف قرن. نرى تفضيلهم لكيسنجر لتوافقه والصينيين بالبراغماتية، ورؤية القائد التاريخي صن زو” كيف تحطم العدو دون قتال”.

يلقب الصينيون كيسنجر بــ ” الرفيق” وفقا للأخوية على الطريقة الشيوعية، فأصبح مستشارهم المخلص-الذي يغدقون عليه الملايين- وبوابة دخول الشركات الأمريكية للسوق الصينية، وطرق أبواب المسؤولين، بينما يؤكد تلميذه ” ناي” أنه لم يكن له صديق إلا نفسه.

استغل عراب البراغماتية قدراته في إبعاد الصين عن ثورات الربيع العربي التي يراها انتفاضات وحشية، يجب قمعها، ونصحهم مع قيام الحرب في غزة، بأن يبتعدوا حتى لا يستفيد العرب من بدائل السلام، التي لن تتحقق- في رأيه- إلا بخضوعهم لإسرائيل، باعتبارها القوة العاقلة الوحيدة بالمنطقة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان