لماذا لا يستخرج العرب شهادة وفاة التطبيع؟

عملية طوفان الأقصى كشفت عن الفشل المفاهيمي لدى دولة الاحتلال إزاء ما تفكر به حماس
نتنياهو ووزير دفاعه (الأوروبية)

هناك ثلاث قسمات رئيسية ترسم في اللحظة الراهنة ملامح دولة الاحتلال في الداخل الإسرائيلي وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي.

داخليًا، لقد تخبَّطت إسرائيل في هوة خلافات سحيقة منذ اشتعال الصراع بين الحكومة اليمينية والمعارضة، إثر تعديل قانون الإجراءات القضائية الذي رفضته المعارضة كونه يخل باستقلالية سلطة القضاء، فأصر نتنياهو والذين معه على تمريره.

صحيح أن الخلافات السياسية وما يكتنفها من تلاسن من هنا وهناك ليست أمرًا غير مألوف في إسرائيل، لكن الجديد هذه المرة أنها اقترنت بحملات تخوين واتهامات بالعمالة إلى حد بدت معه ردود فعل حكومة واحة الديمقراطية “المزعومة” بالشرق الأوسط أشبه بردود فعل جيرانها القمعيين الشموليين تجاه معارضيهم.

ومع نكسة الاحتلال العسكرية يوم “طوفان الأقصى”، ارتفعت وتيرة البغضاء فمضت المعارضة بقيادة “يائير لابيد” تطالب رئيس الحكومة “بنيامين نتنياهو” أن يحمل عصاه ويرحل، بعد أن شرعت تنعته على نطاق واسع بالفاشل الضعيف الذي سيؤدي استمراره إلى مخاطر تهدد الدولة وجوديًا.

بعبارة أخرى، إن الجبهة الداخلية في الوقت الذي تخوض فيه إسرائيل حربًا بالمعنى التام للكلمة ليست على قلب رجل واحد، بل تعتريها تشققات واسعة وحادة.

استخدام الفعل الماضي

أما على المستويين الإقليمي والدولي، فقد صارت إسرائيل منبوذة أكثر من أي وقت مضى إثر جرائم الحرب التي يقترفها جيشها جهارًا نهارًا، إلى حد أن الرئيس الأمريكي “وهو الذي يفخر بصهيونيته” قال حرفيًا في حفل حضره ممثلو اليهود الأمريكيين بالبيت الأبيض “إنني أحذر الحكومة الإسرائيلية من أنها فقدت التعاطف الدولي”.

هكذا بوضوح، استخدم العجوز الفعل الماضي “فقدت” ولم يقل ستفقد أو أنها بصدد فقدان، ولم يستعمل فعلًا من أفعال الشروع على غرار أنشأت أو طفقت أو أخذت تفقد.. لقد قضي الأمر.

مؤشرات فقدان إسرائيل التعاطف تتجلى شعبيًا بصورة فادحة في الاحتجاجات العفوية والعارمة على جرائمها في غزة، ولعله ليس متغيرًا هينًا أن تخرج المظاهرات بهذه الكثافة في “مملكة وعد بلفور” بريطانيا والـ”ماما أمريكا”، كما أنه ليس مشهدًا يمكن المرور عليه سريعًا أن المتظاهرين تلثّموا بالشال الفلسطيني التقليدي تيمنًا بالمتحدث الرسمي باسم “حماس” أبو عبيدة.

على أن الغضب لم يقف عند مستواه الشعبي، إذ وصلت أصداؤه إلى المستويات الدبلوماسية لدى تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 153 من أصل 193 صوتًا، بتأييد قرار وقف “الإبادة الجماعية” ضد الفلسطينيين، والمؤكد أن إسرائيل تعي خطورة هذا الزلزال وتوابعه وستتحرك بشتى السبل للتعامل معه، في حين سيبقى العرب في غفلتهم يعمهون لا يحركون ساكنًا لاستثمار الفرصة غير المسبوقة حتى تتبدد، ومن ثم يذرفون الدموع على اللبن المسكوب.

الأمر الثالث.. وهو الأخطر، يتمثل في الهجرة العكسية، إذ تحدثت الأرقام “قبل أكثر من أسبوعين” عن نحو 370 ألف مستوطن غادروا فلسطين المحتلة، منذ طوفان الأقصى، فضلًا عن الاستطلاعات التي تكشف عن أن نحو 30% من الإسرائيليين يرومون الفرار.

 

الهجرة العكسية.. كابوس إسرائيل المرعب

وليست مبالغة أن هذا العدد الفادح من الهاربين والذين يفكرون في الهروب يوجع إسرائيل أكثر مما يوجع عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيين، فالعقلية الصهيونية أسست الدولة في الأصل على قاعدة “أرض أكثر وعرب أقل”، وفق عنوان دراسة نور الدين مصالحه.

تأكيد ذلك يتجلى في مقولة الأب الروحي لإسرائيل بن غوريون “لن نشعر بالأمان متى زادت نسبة العرب عن 20% في إسرائيل”.. والمعروف أن المشكلة الديموغرافية هي مصدر الفزع رقم واحد لدى الاستراتيجيين في الدولة التي تمنح جنسيتها لليهودي ما إن تطأ قدماه أرض مطار بن غوريون.

إلى جانب ما سبق، فإن الفضيحة العسكرية يوم “طوفان الأقصى” قد هزت صورة إسرائيل، وأفرزت شكوكًا منطقية لدى القوى الدولية التي زرعتها في الشرق الأوسط لتؤدي وظيفيًا دور “فتوة المنطقة”، أو بتعبير آخر لتكون مخلب قط فيها.

إسرائيل إذن إزاء صراع سياسي داخلي لم تخمده مقتضيات اللحظة الراهنة من أن جيشها يخوض حربًا، وإزاء محيط إقليمي يتأجج غضبًا في مستواه الشعبي الذي يضغط رغم الإجراءات القمعية على الأنظمة السياسية المرتعشة، وإزاء رأي عام عالمي يزداد احتقانًا ويفور رفضًا، وكذلك إزاء تغير مهما كان طفيفًا في بوصلة الدبلوماسية الدولية، وهجرة عكسية باهظة الفاتورة، وانخفاض فادح في معدلات الهجرة إليها، فضلًا عن فقدان الهيبة وضياع المكانة في عيون القوى الداعمة.

هكذا تحاصرها الأزمات من جميع الاتجاهات، وهو الأمر الذي قد يدفع وفق العقلية الصهيونية إلى قفزة إلى الأمام عبر توسيع كرة اللهب، على طريقة “حرق روما” أو “هدم المعبد” على رؤوس مَنْ فيه.

في هذا السياق، خرجت تصريحات أفيغور ليبرمان -وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق ورئيس الحزب اليميني إسرائيل بيتنا- لصحيفة معاريف العبرية مؤخرًا، بضرورة الاستعداد لحرب مع مصر والأردن “علينا إعادة ضبط عقارب الساعة”.

ولعل مراد التصريح ومراميه تعني العودة إلى المربع رقم صفر، أي البدايات المبكرة للنكبة أو على أقل تقدير إلى ما قبل إبرام معاهدات التطبيع مع العرب.

كما أن تسمية مصر والأردن وهما الدولتان الأقدم و”الأرسخ” تطبيعًا، وهما دولتان حدوديتان وهما من قبل ومن بعد مستهدفتان لاحتواء المهجَّرين الفلسطينيين، يشي بالمستور من نوايا الطُغمة الحاكمة في تل أبيب.

مخططات التهجير المؤجلة

قد يقول قائل إن مخطط التهجير قد تراجع أمام الرفض المصري والأردني الحاد، وكذلك بفضل بسالة المقاومة في غزة، لكنه سيبقى هدفًا صهيونيًا، فالتراجع مرحليًا ليس إلغاءً، وتاريخ الصهيونية يؤكد أنها تسعى لأهدافها خطوةً خطوة، متى لم تتمكن منها دفعة واحدة.. والثابت أن إخلاء الأرض من أصحابها هدفٌ لم يغب لحظة عن مخيلة الاستيطان.

إسرائيل تعيد ضبط الساعة والتذرع بأن ليبرمان خارج تشكيل الحكومة، مع ملاحظة أنه كان مرشحًا لإحدى حقائبها لا يعني بأي منطق أنه يتحدث بلسانه هو، كما أن هذه الحكومة ليست أقل تطرفًا منه، والسؤال الآن: متى يضبط العرب ساعاتهم أيضًا؟

ثَمّ طرف، وهو عدو مهما قيل عن السلام الدافئ، يجهر أنه بصدد الاستعداد لحرب، فهل سيكتفي الطرف الثاني، بالرد اللزج المتنطع: نحن متمسكون بالسلام خيارًا استراتيجيًا؟

صحيح أن إسرائيل لن تجرؤ الآن على فتح أي جبهة عسكرية جديدة، إذ هي في أوار النيران المتدفقة من غزة، وإذ هي تائهة في متاهات الأنفاق ولا تعرف سبيل الخروج، لكن “قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ”.

لقد استخرجت إسرائيل شهادة وفاة اتفاقات التطبيع رسميًا بعد أن كانت استخرجتها ضمنيًا قبل أن يجف حبرها، وعلى العرب بدورهم أن يشيّعوا هذه الخرافة، إذ لا مسوغ منطقيًا للنوم في حضن جثمان تعفن.. وعليهم أن يستعدوا لتحديات المستقبل، كما تسفر عنها مقولة ليبرمان “نحن في حالة لا حرب، لكن كل شيء مؤسس على تصوّر مشوه للواقع”.

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان