كيف تفسر الديموغرافيا حرب الإبادة الطويلة على غزة؟

تغطي وجهها بكوفية فلسطينية خلال مظاهرة تضامنية مع الفلسطينيين في قطاع غزة، في مدينة البصرة جنوبي العراق في 20 أكتوبر 2023 ( (الفرنسية)

 

قبيل هجوم “طوفان الأقصى” وفي غضون النصف الأول من عام 2023، حملت تطورات الجغرافيا السكانية “الديموغرافيا” أنباء غير طيبة إلى تل أبيب، وإن كان معظمها متوقعًا منذ سنوات، ونقتنص منها اثنين:

الأول.. تجاوز أعداد أبناء الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية كلها أعداد اليهود بها. وهكذا للمرة الأولى منذ تأسيس إسرائيل عام 1948 “دولة يهودية” يعود شعب فلسطين أغلبية فوق كامل أرضه المحتلة. ووفق نتائج التعداد الذي أعلنه الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني من رام الله بحلول 30 ديسمبر/كانون الأول 2022، بلغ مجموع الفلسطينيين في الضفة وغزة نحو 5.5 ملايين نسمة، وفي فلسطين المحتلة عام 48 نحو 1.7 مليون، وبمجموع 7.2 ملايين نسمة، وهؤلاء يشكلون أقل بقليل من نصف الشعب الفلسطيني الذي يحق له العودة إلى أرضه وبيوته وممتلكاته بمقتضى القرارات الدولية.

وبالمقابل وفي التوقيت نفسه، كان المكتب المركزي للإحصاء في إسرائيل يعلن بلوغ عدد اليهود 7.1 ملايين نسمة، من بينهم 700 ألف في 151 مستعمرة/مستوطنة بالضفة الغربية، وهذا بعدما زيدوا 29 مرة خلال 30 سنة من “سلام أوسلو” الأمريكي، والحديث المتكرر الممل غير المنتج عن “حل الدولتين”.

منغصات متعددة

تُقلق تل أبيب

أما التطور الثاني المقلق لتل أبيب، فجاء مع الانخفاض الحاد في أعداد الهجرة الصهيونية المسماة باللغة العبرية “العاليا”، وترجمتها إلى العربية “الصعود”، في النصف الأول من عام 2023، وذلك بنسبة 20% مقارنة بالمدة نفسها في العام السابق، وفق معطيات وزارة الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية.

وفي صيف العام الحالي، أفادت استطلاعات رأي متعددة منشورة في الصحافة العبرية بارتفاع نسب من يفكرون في الهجرة المعاكسة “اليريدا”، والكلمة العبرية تعني “الهبوط أو النزول” بالعربية. وعلى سبيل المثال، ورد في استطلاع نشرته “القناة التلفزيونية 13” أن 28% من البالغين في إسرائيل (فوق 18 سنة) يفكرون في مغادرتها نهائيًّا، أي الانضمام إلى ما يُقدَّر بما بين 700 و800 ألف مارسوا الهجرة العكسية منذ 1948. ويضاف كل هذا إلى تقديرات بدأت تظهر منذ 2016 بأن نصف اليهود في إسرائيل يحملون أيضًا جوازات سفر غير إسرائيلية .

وثمة منغصات إضافية أخرى لإسرائيل بوصفها مشروعًا لاجتذات المهاجرين والاستعمار/الاستيطان يعمل على الحفاظ على “يهودية الدولة” بمعاونة حلفائه، وبخاصة الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ومعها من يقبل بالصهيونية ويتغاضى عنها من حكومات ونخب عربية وقعت اتفاقات “سلام”، واعترفت بإسرائيل “دولة طبيعية” على خلاف حقيقتها، فطبَّعت معها.

ومن بين هذه المنغصات حقائق ما فتئت تتأكد بشأن الطابع الشبابي للمجتمع الفلسطيني على أرضه، وبنسبة 65% تحت سن 29 سنة بينما لا تتجاوز نسبة كبار السن فوق الخامسة والستين 4% فقط، مقابل 13% بين يهود إسرائيل. ووفق آخر معطيات معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، فإن معدل الخصوبة في الضفة وغزة على التوالي 3.8 و3.9%، مقابل 3.1% لليهود في فلسطين المحتلة.

ماذا يعني

“طوفان الأقصى” ديموغرافيًّا؟

جاء هجوم 7 أكتوبر غير المسبوق في تاريخ المقاومة الشعبية فلسطينيًّا وعربيًّا وحتى بطول تاريخ استعمار العصر الحديث مع المنطقة بانعكاسات حلت فورًا وبتداعيات محتملة على جبهة ديموغرافيا الصراع مع الاستعمار الصهيوني الاستيطاني الإحلالي.

فقد كانت لدى “دولة” الصهيونية مشكلة أخص وتاريخية مع قطاع غزة الذي انطلق منه الهجوم. وليس خافيًا على أي متابع العبارة الشهيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “إسحق رابين” حين تمنى ابتلاع البحر لغزة. فللقطاع دوره المقدَّر في المقاومة المسلحة بمختلف أشكال العنف المشروع في مواجهة الاحتلال، والتي توالت حلقاتها بطول الصراع، وقبل “حماس”. كما أن له إسهامه المؤثر في ما يُطلَق عليه “القنبلة الديموغرافية الفلسطينية” التي تخشاها إسرائيل. وهذا من حيث أعلى معدلات الإنجاب والخصوبة، حتى بلغ تعداد سكان القطاع نحو 2.3 مليون فلسطيني، ومع النسبة الأعلى للاجئين المُهجَّرين قسرًا من فلسطين المحتلة 48 بين سكانه (نحو الثلثين). وكذا لأنه الأعلى في معدلات البطالة والفقر، والأدنى في الخدمات ومنها الصحية، وكل هذا حتى مقارنة بالفلسطينيين في الضفة الغربية.

ولم يتغير الحال كثيرًا بشأن جدلية الديموغرافيا/المقاومة بعد مناورة الاحتلال سحب قواته من القطاع صيف 2005 مع الاستمرار في حصاره. وظلت غزة تشكل تهديدًا لإسرائيل على هاتين الجبهتين المفتوحتين: الديموغرافيا والمقاومة. والمتابع لأفكار النخب الصهيونية بين يسار ويمين منذ الانتفاضة الأولى (1987-1990) يلاحظ ترويج حزب “العمل” لحل “الفصل” بين السكان اليهود والعرب و”فك الارتباط” مع قطاع غزة. ثم تلقف اليمين بقيادة رئيس الوزراء الأسبق “شارون” هذه الأفكار، وقام بتطويرها مع اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وصولًا إلى الانسحاب من القطاع 2006 مع حصاره وخنقه.

وتطل دومًا في الخلفية وتتساوق مع هذه الأفكار العنصرية ذات الأبعاد والدوافع المستمدة من الديموغرافيا العنصرية دعاوى التطهير العرقي والتهجير القسري “الترانسفير” التي استهدفت في البداية فلسطينيي الجليل والنقب شمالًا وجنوبًا داخل الأرض المحتلة عام 1948، وكذا ما سُمّي حتى لدى مؤرخين ومحللين إسرائيليين “الترانسفير الزاحف” في الضفة الغربية من خلال الكتل الاستيطانية والجدار العازل والحواجز الأمنية التي تحيل حياة الفلسطينيين إلى جحيم لا يطاق، وكي تستبدل إسرائيل بهم مهاجرين صهاينة جدد يُستجلَبون من الخارج.

ضربة كبرى لأمان

الاستيطان والمستوطنين وللهجرة

ولكن جاء هجوم “طوفان الأقصى” ليسدد أكبر ضربة مكثفة، في أقل حيز زمني لا يتجاوز نصف اليوم، لأمن وأمان الاستيطان والمستوطنين. وهذا على ضوء تاريخ استهداف المشروع الصهيوني لفلسطين من بدايات هذا الاستيطان: مستعمرات “ريشون لتسيون” و”روش بيناه” و”زخروف يعقوب” و”بتاح تكفا”، ومع أول موجة للهجرة الصهيونية بين عامي 1882 و1919. وببساطة ضرب هجوم 7 أكتوبر المحفزات والدوافع المعيشية المحركة لهذه الهجرة ضربة قاصمة على مستوى الأمان والرفاه. وأصبح في إسرائيل للمرة الأولى مهجَّرون يهود صهاينة اضطروا إلى مغادرة أماكن الاستعمار الاستيطاني (المستعمرات)، وبكل ما تتمايز وتتفوق به عمرانيًّا وخدميًّا ورفاهة عن مجمل معيشة الفلسطينيين فوق أرضهم المحتلة، وبخاصة في قطاع غزة.

ويمكن في هذا السياق قول الكثير في المقارنة بين هندسة وعمارة وخدمات المستعمرة /المستوطنة الصهيونية ومخيم اللجوء الفلسطيني. وهنا ثمة مادة خصبة تصلح لدراسات علمية كاشفة للتمييز العنصري/الطبقي/الثقافي بالملموس. وبالأصل في كتابه “الدولة اليهودية” الصادر عام 1896 بالألمانية، يستفيض “تيودور هرتزل” في شرح كيف تُمثل الهجرة الصهيونية ليهود أوروبا القرن التاسع عشر حراكًا اجتماعيًّا نحو الأفضل والأكثر أمنًا، ولماذا تضمَّن انتعاشًا اقتصاديًّا وفتح أسواق جديدة مغرية أمام المنتجات. وهذه الهجرة الصهيونية بنص عبارة الكتاب “ارتفاع في سلم الطبقات”، وهو ما ينسجم مع الحمولة المعنوية في كلمة “العاليا/الصعود”.

أزمة الهجرة

الصهيونية تتعمق

ويفيد تتبُّع المعطيات الإحصائية السنوية عن الهجرة الصهيونية من مصادرها الأساسية (الوكالة اليهودية والكتاب السنوي لإسرائيل إضافة إلى المكتب المركزي للإحصاء ووزارة  الهجرة والاستيعاب) أن منحنى هذه الهجرة يرتبط صعودًا وهبوطًا بجدية تحدي المقاومة وبالأوضاع الاقتصادية داخل إسرائيل، وهو ما يستخلصه كقانون حاكم ويوثقه ويحلله بالتفاصيل كتاب “رهان المليون السابع: اليهود والهجرة الصهيونية حتى 2020” الصادر لكاتب هذا المقال من القاهرة 2002 ودمشق 2006.  كما يتضح أن للعامل الأول (المقاومة وبخاصة المسلحة) تأثيره على الثاني، ومهما بذل الاستعمار العالمي ومكوناته من أوجه الدعم لإسرائيل. والعامل الأول يؤكد أهمية الفعل الإرادي لا التسليم القدري، أما الثاني فيكشف زيف الجانب العقائدي الأيديولوجي للصهيونية وهجرتها.

وتأسيسًا على هذا، تأتي أحدث معطيات الوكالة اليهودية لتؤكد انخفاض الهجرة الصهيونية لمجمل أكتوبر/تشرين الأول 2023 شهر هجوم “طوفان الأقصى” إلى 700 مهاجر، في حين كانت 5773 عن الشهر ذاته من العام 2022، وهو ما يؤشر إلى اتجاه المنحنى للهبوط، وفق القانون الحاكم المشار إليه سابقًا.

وعلى الرغم من غياب معطيات إحصائية إلى اليوم عن مفعول “طوفان الأقصى” في الهجرة العكسية “يريدا”، فبالإمكان توقع النتائج على ضوء قاعدة أن انخفاض منحنى الهجرة الصهيونية يصحبه زيادة أعداد اليهود المغادرين إلى إسرائيل، وفق استخلاص كتاب “رهان المليون السابع” نفسه، وكذلك قياسًا على المعطيات الإسرائيلية بعد حرب لبنان 2006 وحتى 2009، حيث وثقت هجرة عكسية لنحو 120 ألفًا، وبُعَيد حرب غزة 2015 التي استمرت 52 يومًا، حيث سجلت هذه المصادر رحيل 16 ألفًا و700، عاد منهم في سنوات لاحقة 8500 فقط.

وبالطبع فإن حرب أكتوبر 1973 كانت قد أحدثت تحولًا في الهجرة الصهيونية من الصعود منذ حرب 1967 إلى الهبوط، وأدخلتها في أزمة ممتدة لنحو 15 عامًا، زادتها حدة الانتفاضة الفلسطينية الأولى. وهذا حتى جاء انهيار الاتحاد السوفيتي بفرصة الهجرة الروسية الضخمة بدءًا من عام 1989، ثم لحقها مباشرة الانتقال إلى “مسار التسوية” من مؤتمر مدريد 1990 واتفاقات أوسلو 1993، وتخلّي منظمة التحرير الفلسطينية -وبالأحرى قيادتها وفصائلها الرئيسة- عن المقاومة المسلحة. ولا يقل عن هذا خطرًا وتأثيرًا تقبُّل الصهيونية والتعايش معها بين ضحاياها، وبالأدق من يمثلهم سياسيًّا ووطنيًّا.

وأعتقد أن تبيُّن الأبعاد الديموغرافية السابقة ومستجداتها يضع محل شك الزعم بأن الفعل الكبير الاستثنائي المقاوم في 7 أكتوبر 2023 هو بمفرده الذي استدعى حرب الإبادة والتطهير العرقي والتهجير الجماعي “الترانسفير”، وجر كل هذا الوبال والدمار على الشعب الفلسطيني، وبخاصة في غزة. وبوضوح تفيد قراءة هذه الديموغرافيا بأن هذه الحلول العنصرية الصهيونية الإرهابية كانت وما زالت قائمة وجاهزة للترجمة على الأرض، بصرف النظر عن الذرائع والمبررات وجسامة الأحداث وترتيب تسلسلها. ولذا يبدو من غير المنطقي أو العلمي ممارسة “جلد المقاومة المسلحة” أو محاولة دفعها إلى “جلد الذات”، وأخذها بذنب تأجيج العدوانية الصهيونية واستفزازها.

ويصح القول بأن هجوم 7 أكتوبر جاء ليعمق تناقضات الديموغرافيا وأزمتها عند إسرائيل، لكنه لم يستدع من العدم هذا الإرهاب الصهيوني، أو يتسبب في اختراعه، بل ويمكن افتراض أن هذا الغلو في الإرهاب وجنونه يتجاوز مجرد الرد على الهجوم المقاوم وتداعياته الحالية والمحتملة إلى كونه بالأصل كامنًا ومطروحًا في صلب مأزق الديموغرافيا، والاستجابات الصهيونية العنصرية المطروحة والممارسة لمعالجته، ومن المعتاد أن يجري استدعاؤه من حين إلى آخر.

***

وفي المقال المقبل نتناول حصاد مشروع استجلاب مليون مهاجر يهودي إلى إسرائيل بين 2000 و2020، وما انتهى إليه، وكيف تفكر تل أبيب الآن في مستقبل الهجرة الصهيونية على ضوء هذا الحصاد، وتداعيات “طوفان الأقصى” والحرب على غزة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان