إسرائيل التي “تُهبهب” في غزة

طفل فلسطيني أصيب في غارة جوية إسرائيلية يصل إلى مستشفى ناصر (غيتي)

 

عندما خلع “شوقي” قميصه فعرّى ظهره، لم يكن فيه مكان له شكل الجلد، كل بشرته كانت نُدوبًا، تمتد طولًا وعرضًا، وتتجمع في هضاب مندملة.

نظر إلى وجه “عباس” بعينين يتطاير منهما الشرر، فصرخ بصوت مدوٍ: إذا كنت نسيت كل شيء، فلن تنسى هذه الآثار، انظر ما فعلت، أين كرباجك الأعمى؟ أين حذاؤك ذو النعل الحديدي؟ أين نيرانك؟ أسمعني صوتك المرعب الخشن، الذي كان يرج قلوب السجناء رجًّا.

كان “شوقي” طبيبًا شابًّا، دخل المعتقل في مرحلة ما قبل ثورة يوليو، فاصطلى بنيران “عباس” وحش التعذيب في قلم البوليس السياسي، الذي لُقّب شعبيًّا بـ”العسكري الأسود” في الرواية التي حملت الاسم ذاته، لأمير القصة القصيرة، يوسف إدريس، وأصدرها عام 1962، وقد اختار الأربعينيات إطارًا زمنيًّا، حتى يراوغ الرقابة الناصرية في “حكم الجنرالات”.

كان الضحية قبيل اعتقاله، مفعمًا بالحماسة، غير أنه خرج من السجن مسخًا، أو وفق تعبير إدريس “كأنه مجروح ليس جرحًا صغيرًا، وإنما جرح من قمة رأسه إلى أظفار أقدام شخصيته”، ومن ثم التحق بمستشفى حكومي، فدارت الأيام دورتها بدهاء، فإذا بملف جلاده أمامه، ومعه طلب من وزارة الداخلية بالكشف الطبي عليه، للبت في فصله، إثر إصابته بعلة نفسية، جعلته يعوي منزويًا في سريره، كأنه “كرة من اللحم البشري”.

عندما رأى الجلاد آثار التعذيب، شرع يُهبهب -هذه مفردة إدريس وهي بالمناسبة فصيحة- ثم غرس أنيابه في قماش فراشه، لينتزع القطن فيمضغه، فأطبق أسنانه على لحم ذراعه، وهو ينظر بعينين تحترقان، ولعابه يسيل، حتى تدفق الدم مختلطًا باللعاب، بقطع اللحم الممزق.

كان ذاك المشهد الختامي للرواية، وفيه بلغ التصاعد الدرامي ذروة لاهثة حسمتها عبارة تقريرية، لامرأة عجوز من الجيران “لحم الناس.. من يذوقه لا يسلاه، حتى إنه قد ينهش لحمه هو”.

نهايات القوة الباطشة

العسكري الأسود، الذي انتهى به الحال إلى أن “يهبهب” ككلب مسعور، يُمثل رمزًا لانهيار القوة الباطشة، حين تتوحش إلى نهايات الوحشية، وتتجاهل الاعتبارات الإنسانية برمتها.

في تمعن ملامح العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ما يؤكد أن دولة الاحتلال “تهبهب” بدورها، ذلك أن وصول الضحايا ما بين شهيد وجريح في 60 يومًا فقط إلى نحو 60 ألفًا، أكثر من 25% منهم شهداء، والقصف مع سبق الإصرار للمنشآت العلاجية ودور العبادة ومنازل المدنيين، لا يعني إلا أننا إزاء “هبهبة مسعورة”.

صحيح أن الأمر مألوف بالنسبة للتشكيل الإجرامي، المسمى مجازًا “دولة إسرائيل”، تلك التي قامت في الأصل على مذابح عصابات “هاجاناه” و”شتيرن” و”أرغون”، بقيادة “الإرهابيين الأوائل” من مؤسسيها.

وربما يكون من الصحيح كذلك، أن المجرم وُلِد ليكون مجرمًا، وفق نظرية “الرجل المجرم” للإيطالي “لومبروزو”، ذلك بغض النظر عن تهافت الفرضيات التي أفضت به إلى تلك النظرية.

استهداف الأطفال مع سبق الإصرار

لكن الإجرام الإسرائيلي هذه المرة بلغ مبلغًا غير مسبوق، فكثافة القصف وضراوته تجاوزت كل الخطوط الحمراء، ويكفي أن الأمم المتحدة -رغم انحيازها- أقرت بأن جيش الاحتلال قتل “خلال شهر” من أطفال غزة، ما يفوق عدد الأطفال الذين قضوا نحبهم في 22 صراعًا مسلحًا بالعالم خلال السنوات الأربع الماضية.

“بينتقموا منا في الأولاد.. معلش” العبارة التي أطلقها مراسل الجزيرة وائل الدحدوح، بعد استشهاد 12 فردًا من عائلته، تكشف عن إصابة الاحتلال بالسعار المسمى طبيًّا “داء الكلب”.

ومن المفارقات أن المرض الذي يقتل الآلاف سنويًّا، يُشكل الأطفال نحو 40% منهم، وهي نسبة تقارب وفيات أطفال غزة جراء القصف، مما يجعل مفردة “الهبهبة” ليست خروجًا عن أي سياق.

العودة إلى أسباب اندلاع “طوفان الأقصى” تكشف أن الكيان الصهيوني قد سعى بإخلاص إلى معادلة صفرية، فالفلسطينيون ما كانوا سيسكتون إلى الأبد، إزاء تكرار اقتحام المسجد الأقصى بقيادة المتطرف وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، وبتواطؤ رئيس حكومته بنيامين نتنياهو.

في كتابه “روح الإرهاب” يتهم الفيلسوف الفرنسي جان بودريار الولايات المتحدة بأنها عمدت إلى تهيئة الظروف الموضوعية لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، ذلك أن “أولئك الذين وقعوا في الجانب السيئ من النظام العالمي، أرادوا تغيير قواعد اللعبة”.

إن طغيان القوة يستولد الرغبة في نفوس الضحايا إلى تدميرها، ومن ثم فإن صدمة انهيار برجي التجارة في مانهاتن، شكلت رسالة رمزية بأن “القوة الباطشة التي رفعت البرجين قد خارت فجأة، وكان ذلك حصاد عجرفتها”.

في عملية “طوفان الأقصى” تبدو قوة إسرائيل الباطشة كذلك، وقد خارت فجأة، بعد أن هيأت الظروف الموضوعية للهجوم عليها.

ماذا بعد انتهاء الهدنة؟

ومع انتهاء الهدنة، يؤكد التصميم الإسرائيلي على المسارات الإجرامية ذاتها، أن سدنة الحكومة اليمينية وعسكرها المتطرفين، يتجاهلون أنه كلما صار التنكيل أشد استنفرت المقاومة، وبالتالي اقتربت الخاتمة.

هذه ليست أوهامًا، فالدراسات الاستشرافية التي تطرقت إلى انهيار إسرائيل، أكثر من أن تُعد وتُحصى، وعلى رأسها دراسات الدكتور عبد الوهاب المسيري، التي تستعرض العوامل الديموغرافية والعرقية والخلافات الدينية بين السفرديم والأشكناز، وما إلى ذلك من أوجه ضعف بنيوية في نسيج دولة الاحتلال.

غير أن ذلك ليس كل شيء، فثمة دراسات ومنها دراسات إسرائيلية ترى أن النزعة النازية تسوق الاحتلال إلى الهلاك، وتبرز في صدارتها كتابات رئيس الكنيست الأسبق “أفراهام بورغ” الذي نشر كتابه “نهاية هتلر” عام 2007، وفيه يقول “الهتلرية صارت تهيمن على العقل السياسي في إسرائيل، بكل ما تتضمنه من معاداة الآخر، والسعي إلى محوه، مما يعني أن خطواتها إلى الفناء، تتسارع كريشات المروحة التي تبدو لشدة سرعتها ثابتة”.

إسرائيل التي “تُهبهب” في غزة، فتعقر ذات اليمين وذات اليسار، تمضي إلى نهاية العسكري الأسود، إذ أصابه السعار، إثر إدمانه اللحم البشري، فالأمر كما يقول “إدريس” في متن الرواية: أتعرف أنك حين تؤذي غيرك تؤذي نفسك دون أن تدري؟

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان