حرق المصحف يهدد بتآكل أطراف قانون الحريات في السويد

لا يحجب دخان حرق المصحف الشريف في العاصمة السويدية ستوكهولم عن العارفين بقوانينها، حقيقة أبعاد ما يفعله رئيس حزب “الخط المتشدد” اليميني المتطرف راسموس بالودان منذ سنوات.

هو في نظر الملايين -ممن استُفزّوا برؤية مقدّس ديني يُحرق تحت حراسة أمنية- عنصريّ متطرّف، وإجرامه ينبغي ألا يؤذن له به، لكن الواقع القانوني في السويد خلاف ذلك، فهو ينصّ على وجوب حمايته، وربما من أجل ذلك سعى راسموس الدانماركي الأصل إلى نيل الجنسية السويدية قبل نحو سنتين، ليكون تحت حماية قوانينها، وقد منع سابقًا من حرق المصحف في مدينة مالمو جنوب السويد، وأبعد بقرار محكمة المدينة الإدارية إلى الدانمارك بلده الأصليّ لمدة عامين، لكن حصوله على الجنسية السويدية بعد أشهر قليلة، منحه الحق القانوني بالدخول إلى السويد من جديد، وممارسة نشاطه “المتطرف” تحت مظلة قانونية، تثير التساؤل عن تناقضها مع مواثيق حقوق الإنسان في أوربا والعالم.

ولعلّ التصريحات الرسمية في السويد أبلغ دليل على هذا التناقض الذي أظهرها مكتوفة الأيدي أمامه، فرئيس الوزراء السويدي أولف كريسترشون اعتبر أنّ حرق كتب تمثّل قدسيّة للكثيرين “عمل مشين” للغاية، وأعرب عن تعاطفه مع جميع المسلمين الذين شعروا بالإساءة بسبب ما حدث في ستوكهولم، مضيفًا أن حرية التعبير جزء أساسي من الديمقراطية، ولكن ما هو قانوني ليس بالضرورة أن يكون ملائمًا، رغم ذلك لا تملك السلطات منع ما تبيحه القوانين.

وقد سبقه إلى هذا الموقف وزير خارجيته توبياس بيلستروم قائلًا: إن الاستفزازات المعادية للإسلام مروّعة، فالسويد تتمتع بحرية تعبير كبيرة، لكنّ هذا لا يعني أن الحكومة السويدية أو هو نفسه يؤيد الآراء المعبَّر عنها، وفق قوله.

“يُدان ويؤذن له ويُحمى بنص القانون” ثنائية

أحد جوانب الصورة لما يجري في السويد له علاقة مباشرة بترتيب منظومة القيم والأولويات في المجتمعات، فالسويد –حسب القانون الأساسي- يتساوى فيها الموقف تقريبًا من جميع الأديان والمعتقدات والمقدسات، فهي تسمح بالانتقاد وتعدّه حرية تعبير، مهما بالغ المنتقدون في ذلك، غير أنها في الوقت نفسه لا تتسامح مع الإساءة للبشر المنتسبين لهذا الدين أو ذاك، فالانتقاد من نصيب العقائد والأفكار، أما البشر فهم محميّون بقوة القانون.

في المقابل فإن المجتمعات المسلمة، قد تتسامح مع الضرر الواقع على الأشخاص المؤمنين بهذا المعتقد أو ذاك، لكنها تُبدي حساسية مفرطة تجاه المساس بالمعتقدات أو المقدسات، وبالنسبة لها لا توجد حرية تعبير أو اعتقاد حينما يتعلق الأمر بالدين.

في واقعة راسموس، وجدت السويد نفسها، ضحية تناقض كمنظومة قانونية، تمثلها ثنائية أن تدين ما يفعله راسموس، لكنها تسمح له بذلك من خلال منظومة قوانينها، وتتعاطف مع المسلمين بتصريحات مسؤوليها، لكن جهازها الأمني مجبور على حماية راسموس من أي اعتداءات، خلال استفزازه لمئات الملايين حول العالم بحرق كتابهم المقدّس.

التناقض الذي أحرج ستوكهولم أكثر وأسقط احترامها للقوانين، هو تمكّن السلطات الإسرائيلية من منع حرق نسخة من التوراة أمام السفارة الإسرائيلية في العاصمة السويدية، وفق ما صرّح به سفير إسرائيل لدى ستوكهولم، متباهيًا بأنه جرى منع هذا الصنيع، في حين لم يُسمع تعليق رسمي عن هذا المنع، ولا كيف تمّ وفق منظومة قانونية لا تهتمّ للأديان بقدر ما تهتم لحرية التعبير؟ وربما ذلك يفتح آفاقاً لتغيير بعض النظم القانونية، إن مورس ما يكفي من الضغوط الشعبية والدبلوماسية، مثلما مورس في هذه الحالة “حرق التوراة” الضغط السياسي.

تراجع داعمي راسموس

ربما كان كافيًا الضغط التركي، وتلويح أنقرة بإهمال ملف السويد في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، لجعل بعض الواقفين وراء المشهد “الراسموسي” يتراجعون خطوة إلى الوراء، فالظرف الإقليمي لا يسمح بمزيد من الاستفزازات المتطرفة، وستوكهولم تبدو متخوّفة من أن تضل الطريق بعيدًا عن تركيا لإدخالها المحفل العسكري في بروكسل.

فقد أكد رئيس حزب ديمقراطيي السويد -اليميني المتطرف والمعادي للمهاجرين- جيمي أوكيسون أن حزبه ليس لديه أي علاقة بالصحفي تشانغ فريك، رافضًا الاتهامات التي وجهت للحزب، ومعتبرًا “حرق الكتب عمل أخرق”.

وكان اسم تشانغ فريك، المقدم في قناة “ريكس” التابعة لحزب ديمقراطيي السويد، والمحرر في موقع “أخبار اليوم” اليميني، حديث الإعلام السويدي في الأيام التي تلت حرق نسخة من المصحف الشريف، بعد أن تبيّن أنه من دفع رسوم الترخيص الذي حصل عليه اليميني المتطرف راسموس بالودان، وأحرق فيه نسخة من المصحف الأسبوع الماضي.

فريك أكد في حوار صحفي، أنه دفع رسوم الترخيص بغية الاحتجاج ضد تركيا، وليس من أجل حرق المصحف، مبديًا اعتذاره عما فعله بالودان، اعتذارًا يهم أنقرة أن تسمعه، وهي التي في يدها تسهيل دخول السويد إلى حلف الناتو أو تعقيده، وقد تلبّدت سماء الدبلوماسية مع ستوكهولم بحرق نسخة المصحف أمام السفارة التركية هناك.

يسعى أوكيسون للتنصل أكثر من الصحفي فريك، حيث ذهب بعيدًا في التبرؤ منه ومن تحريضه لبالودان على هامش مؤتمر صحفي قائلًا: إنه كان عضوًا في حزبنا قبل نحو عشر سنوات، ومنذ ذلك الحين أصبح عضوًا في حزب آخر.

أوكيسون أشار أيضًا في اللقاء ذاته إلى أنه لا يشجع حرق المصحف، وأضاف بأن حرق الكتب عمل أخرق ومناهض للفكر، “لن أحرق الكتب أبدًا ولن أحث أي شخص على حرق الكتب، لكن لدينا حرية تعبير في السويد تسمح بالعمل الأخرق والمناهض للفكر”.

القفز هنا من النقيض إلى النقيض لديه ما يبرّره عند أوكيسون، فقد نقل راديو السويد أن أعضاء في أحزاب الحكومة السويدية طالبوا حزب ديمقراطيي السويد بالنأي عن الصحفي فريك، فما كان من رئيس الحزب إلا التعبير صراحة عن أنه لا صلة له بالحزب، والأهم من ذلك ربما في نظر الحكومة السويدية ألّا ينفرط عقد ائتلافها الحكومي بسبب مواقف متطرفة لأحد مكوّناتها الأساسية تهدد “الأمن القومي” للسويد.

فحزب ديمقراطيي السويد اليميني المتطرف، المعادي للمهاجرين، والقائم برنامجه على التضييق عليهم بهدف إبعادهم عن البلاد، يؤكد الحاجة الملحّة لانضمام السويد إلى الناتو، تحسّبًا لأي عدوان روسي محتمل على بلاده، لكنه لا ينتبه إلى أن تحقيق ذلك لا يجد طريقه حتى الآن إلا عبر موافقة تركيا، التي يستفزها بعض المحسوبين عليه بحرق نسخة من القرآن أمام سفارتها في ستوكهولم.

فضلًا عما تخشاه جهات سويدية من انعكاس هذه الأفعال وتحوّلها إلى أعمال شغب وربما إلى أحداث أمنية داخل البلد، يحركها طابور خامس “روسيا مثلًا”.

هذه المخاوف كلها، رسمت مواقف تراجع كبيرة، بدوره فقد عبّر رجل الأعمال والصحفي تشانغ فريك في تصريح صحفي عن اعتذاره عما فعله اليميني المتطرف راسموس بالودان بحرق نسخة من المصحف، مضيفًا “بصفتي سويديًا، لا يسعني إلا أن أعتذر عما فعله بالودان وآمل أن يختار في المرة القادمة قراءة القرآن بدلًا من حرقه”.

بمثل هذا الاعتذار، تظهر حالة الإحراج بسبب ما خلفته فعلة بالودان “المشينة” على حد لفظ رئيس الحكومة، ما خلفته من تصلّب تركيا وإغلاقها الباب في المدى المنظور أمام موافقتها على انضمام السويد إلى الناتو، وما يشكله ذلك من خطر على الأمن القومي السويدي.

بالودان يتنكّر للفكرة أيضًا، ويؤكد أن السفر إلى السويد وحرق المصحف أمام السفارة التركية في ستوكهولم لم يكن فكرته يومًا، على حد قوله، مشيرًا إلى أنه كان على اتصال بتشانغ فريك، وأنّ اقتراح الحرق جاء من فريك نفسه.

وقال بالودان في تصريحات صحفية: “كانت فكرتهم حرق المصحف خارج السفارة التركية”، وأضاف أنه لا يعرف أسبابهم، لكن يمكنه فقط الحديث عن أسبابه: “أعتقد بأنه كان رد فعل جيدًا لمحاولة أردوغان التأثير على حرية التعبير في السويد”، كما قال.

مستثمرات الحادثة

يبدو واضحًا أن الكل يحاول القفز من المركب، ويتبرّأ من هذا الفعل المشين لأسباب داخلية سويدية، وأخرى خارجية تتعلق بضرورة رفع تركيا يدها عن ملف السويد لانضمامها إلى حلف الناتو، ما يصبّ في مصلحة الأمن القومي السويدي.

غير أن تكرار الحادثة قد يعتّم مستقبل هذا الانضمام، خاصّة وأنّ بالودان حمل ولاّعته مجددًا وعاد أدراجه إلى الجوار الدانماركي، ليستفزّ المسلمين في العالم حيث لا مصلحة لكوبنهاجن حاليًّا مع أنقرة.

أما السويد فينبغي عليها التفكير في كيفية استثمار الحادثة للعمل على تعديل قانون “حرية التعبير” المكفولة في النظام الأساس في قانون يبلغ تعداد صفحاته 2400 صفحة، بحيث لا تُقيّد الحريات، ولا تضيع المصالح، ولا تُستفزّ مشاعر قوميات باتت مكوّنًا أساسيًّا منها (ما يصل إلى 10%) على مدار أجيال من المهاجرين.

وفي السياق، فإن عقد لقاءات حوارية بين رئيس الوزراء السويدي أو أحد أركان حكومته، مع ممثلين عن المؤسسات الإسلامية في السويد “الاتحادات الإسلامية” أو غيرها، يُعدّ خطوة إيجابية تصبّ في مصلحة السويد أوّلًا، فالحوار المباشر مع الأقلية المسلمة والاستماع إليها لا عنها سيكون مناسبًا، وهي المتضرّر الأول والمعنيّ الرئيسيّ بالاستفزازات الراسموسية.

وليست الحكومة السويدية وحدها المطالبة في إعادة النظر في قوانينها، وربما لن تفعل إن لم تُمارس ضغوط على صنّاع القرار السياسي السويدي تدفعهم إلى ذلك، ضغوط ينبغي أن تستمرّ، وأن تكون أكبر وأوسع من مجرّد حادثة، في ظرف إقليمي حرج، ولا أهل لذلك غير المهاجرين من خلال المشاركة الواسعة والمدروسة في الحياة السياسية، والمساهمة في إعادة رسمها بالتعاون مع الحريصين من أهل البلاد الأصليين، بما يحافظ على حقوقهم الثقافية والدينية فيها، كما هي الحال في المملكة المتحدة التي بحسن إدارتها لعملية إدماج المهاجرين وبتشاركيتها السياسية، وصل مهاجر من أصول هندية إلى رئاسة وزراء البلاد، على حساب منافسين بريطانيين من حزب المحافظين.

لا بدّ من العمل “القانوني”، من أجل تعديل قانون “حرية التعبير” وضبطه بوجوب احترام مقدسات شريحة واسعة من المسلمين السويديين، فضلًا عما يقرب من ملياري مسلم حول العالم، وتجريم الإساءة لهذه المقدسات مستفيدين من قرارات المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، والتي اعتبرت في حادثة “إساءة لنبي الإسلام في النمسا” أن هذه الإساءة لا تدخل في إطار حرية التعبير.

كما أنّ المسلمين في السويد مطالبون بالانخراط أكثر في الحياة العامة، والعمل السياسي الجاد وفق رؤية واضحة وأهداف محدّدة، وأن يفعّلوا قنوات التواصل والحوار مع شرائح مجتمعية سويدية أكاديمية وفكرية وسياسية وصحفية ومجتمعية، للوصول إلى مشتركات حول كيفية حفظ حقوق الأقليات في القانون.

ويساعد في ذلك إنشاء منصات إعلامية متعددة ومتنوعة باللغة المحلية، وبأسلوب خطاب يتناسب مع عقلية السويديين ويلامس فهومهم، لتعريفهم بأخلاق الإسلام وقيمه الإنسانية ومقدساته.

فضلًا عن مخاطبة بعض هذه المنصات للسويديين المسلمين، تعرّفهم بقوانين بلدانهم الجديدة، وبحقوقهم وواجباتهم الوطنية. كما تحضّهم على العمل بقيمهم الإسلامية من حريّة وحوار وتواصل وتعارف وصدق وأمانة ومسؤولية وغيرها.

وفي الجانب القانوني، فإنه ينبغي العمل على تكليف مكتب محاماة متخصص من الأكفاء والمشهود لهم في مجالهم بخبرتهم ومصداقيتهم، لمتابعة الملفات الشائكة ومعالجتها، فضلًا عن تقديم المشورة القانونية لمن يحتاجها.

أما على مستوى الحكومات والمنظمات والاتحادات الإسلامية والإنسانية العالمية، فإنّ عليها ألا تكون ردات فعلها موسمية، أو أن تقف عند موجات الإدانة والشجب والاستنكار، بل أن تتقدم مواقفهم نحو خطوات فاعلة، والعمل على سنّ قوانين دولية تجرّم الإساءة إلى المقدسات، وتفعيل دبلوماسيتها لتتواصل مع الحكومات المعنية، والعمل معها أو الضغط عليها، للحؤول دون وقوع أفعال كراهية، وأن تتعاون مع النخب والمؤسسات الإسلامية والأكاديمية، لتعريف غير المسلمين بالإسلام، وابتكار الفعاليات الثقافية المتنوعة من أجل ذلك.

هل ستتوقف هذه الاستفزازات العنصرية؟

مثل هذه الممارسات لا يرسم لها في العادة خطوط نهاية، عدا ما تصطدم به من ردود فعل سياسية خارجية “تفرملها” كما حدث مع أنقرة، لكنها تبقى “فرامل” مؤقتة، تستأنف بها رحلة الاستفزاز العنصري.

ففي الغرب والسويد تحديدًا، سنشهد مزيدًا من “جرائم الكراهية” ضد المسلمين، ما لم تكن هناك مبادرات فاعلة أهلية وحكومية وفق رؤية واضحة، وأهداف محددة، وآليات مشروعة، لمعالجة مثل هذه “الجرائم”.

ويزداد طين التحديات بلّة، مع تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب، وفي ظلّ حكومات يمينية متطرفة، تسعى دائمًا إلى تشريع قوانين تضيق على الأقليات المسلمة، وتصعّب من عملية اندماجها في المجتمع.

الأكيد أن الضغط التركي قد أثمر رجفة رسمية وردعًا ولو غير مباشر لبالودان ومن يقفون وراءه، لكن أنقرة لن تكون وصيّة على المسلمين خارج أراضيها، وأزمة الناتو والحرب الروسية الأوكرانية وإن طالت، فإنها لن ترسم معالم طويلة الأمد في الإقليم، وبالودان وإن انتهى عن فعلته اليوم سيظهر غيره غدًا، لينقل حريقه المستفز من مدينة إلى أخرى، في السويد إلى الدانمارك وغيرهما.

وما يتوجّب على المسلمين في بلاد الغرب، هو العمل بالوسائل المشروعة، على رسم حدود انتهاء حرية الآخرين، عندما يختلط حبرها ببياض مساحات حريتهم.

المصدر : الجزيرة مباشر