شادر السمك.. الجنون طريق النهاية

 

لم يكن حال شادر السمك المكان الرئيس لبيع الأسماك في القاهرة أفضل حالًا قبل ظهور المعلم الجديد أحمد أبو كامل بينهم، فتحكم تجار السوق عليه كان غالبًا على الوضع، الفارق الوحيد قبل ظهور المعلم الجديد وبعده هو عدد المتحكمين في السلعة، بينما صار الآن الحاكم الوحيد الفرد الذي يشبه نفسه بالملك -ملك الشادر- كان قبله عديد من الملوك يتحكمون أيضًا، يمنحون لمن يرضون عنه، ويمنعون لمن لا يطيعهم، وربما كان هذا التحكم هو الذي فتح الباب لظهور الأسد الذي أكلهم جميعًا، فقد منعوا بيع الأسماك لجمالات زوجة أحد معلمي السوق الذي توفي، وكان موقف أحمد أبو كامل منها ومساعدته لها هو مفتاح صعوده إلى التحكم في السوق وليصبح وحيدًا في ساحة الشادر.

هذه المعضلة هي محور الفيلم السينمائي الذي أخرجه علي عبد الخالق عن قصة لمؤلف لم يظهر سينمائيًا مرة أخرى هو عصام نصار، سيناريو وحوار عبد الجواد يوسف، والتمثيل لأحمد زكي ونبيلة عبيد، لعب أحمد زكي دور (أحمد أبو كامل) العامل في شادر السمك الذي يقف بجوار جمالات (نبيلة عبيد) التي يطمع فيها أحد التجار الكبار، وعندما ترفض الانصياع له يطردها من الشادر ويعتدي عليها، ولا تجد جمالات إلا أحمد أبو كامل يقف بجوارها، ويتزوجان.

فيلم شادر السمك إنتاج عام 1986، هذا العام الذي شهد التخلص من وزير الداخلية المصري الشهير أحمد رشدي، بعد مؤامرة عليه قيل إن الضالع فيها تجار المخدرات في حي الباطنية، وفي هذا العام بدأت ملامح التخلص من القطاع العام في مصر، وأيضًا ظهور مجموعة من التجار لكل سلعة يتحكمون فيها وسعرها في السوق، وهي ظاهرة انتشرت في عصر مبارك بشكل كبير، الفارق هنا أنه في سنوات مبارك الأخيرة صار لكل سلعة رأس وحيد هو ملك السوق، يوزع كيما شاء على تجار أصغر يتحكمون في السوق كله، وهي الفكرة التي قام عليها الفيلم الذي أنتج مبكرًا في العصر المباركي.

بدايات التسلط

دائمًا ما يكون الإنسان الطبيعي يحمل بذورًا طيبة، وتنتج الظروف الاجتماعية وتعامل الناس معه مسيرة أخرى، هكذا كانت الأوضاع في سنوات إنتاج الفيلم، تغيرت هذه النظرية في عصرنا الآن بعدما صارت للقوى الكبرى في الأسواق خاصية التحكم عن بعد، بطل الفيلم هنا إنسان بسيط لا يحتمل تعرض امرأة للضرب من معلم كبير بالشادر، لكنه يحمل بذور الطمع والنكران الجميل، فعل هذا مع زوجته جمالات التي أسست تجارته بالشادر، ومع معلمه الذي عمل معه وساعده في بداياته.

أخطر ما يصنع الغرور والكبرياء عند الإنسان هو تعامل الناس العادية، أحمد أبو كامل الذي كان موضع سخرية عمال السوق عندما طرد من عمله، استقبله عمال الشادر بالرقص حينما اشترى دكانًا في الشادر، وأصبح المعلم أحمد أبو كامل، ولأن بذور التسلق والتحكم موجودة بداخله فقد بدأ يحارب التجار الآخرين ويتنكر للجميع، وعندما يجد فرصة للتملق يفعلها مع نائب مأمور الحي، ثم مع أحد المسؤولين الكبار في الدولة، بل يصل الأمر لإغراء ابنته بالهدايا والأموال ويتزوجها أيضًا، كل هذا ليتحكم في شادر السمك، معتمدًا على المسؤول الكبير “اللي ليه ظهر لا ينضرب على بطنه” هكذا يقول لصهره.

نبيلة عبيد بطلة الفيلم

قدمت نبيلة عبيد في الفيلم دور جمالات المرأة المصرية الجدعة، يتوفى زوجها، فتحاول أن تعيش بكدها لتربية ابنتها، يحاول تاجر كبير بالسوق إغراءها فترفض، تتزوج أحمد أبو كامل ظنًا منها أنه رجل جدع يعتمد عليه، لكنها يغدر بها ويتزوج ابنة المسؤول الكبير، تعود للسوق وتحاول أن تعمل على تربية ابنتها.

قدمت نبيلة في الفيلم دورًا لا يعتمد على جمالها، وهو دور من ضمن مجموعة أدوار قدمتها للسينما مثل دورها في فيلم توت توت مع المخرج حسين كمال، والغرقانة مع محمد خان، وقدمت نبيلة عبيد للسينما 83 فيلمًا سينمائيًا.

اكتشفها عاطف سالم وقدمها في أول أفلامها (مفيش تفاهم) 1960، لكن نيازي مصطفى قدم لها أول بطولة سينمائية في فيلم (رابعة العدوية) وأيضًا (عاشقة بدوية)، وكليهما عام 1963، وعملت نبيلة عبيد مع عاطف سالم ونيازي مصطفى ثنائيات سينمائية، قدما معها أكثر من 20 فيلمًا.

الثنائية الأهم في حياة نبيلة عبيد كانت في مجموعة الأفلام التي أنتجت عن روايات إحسان عبد القدوس، وشارك فيها ثلاثة مخرجين هم صلاح أبو سيف في فيلم وسقطت في بحر العسل، أشرف فهمي في لا يزال التحقيق مستمرًا، وحسين كمال في العذراء والشعر الأبيض، أرجوك أعطني هذا الدواء، وأيام في الحلال، ومع أشرف فهمي قدمت لنجيب محفوظ فيلم الشريدة.

قدمت نبيلة عبيد مع عاطف الطيب ثلاثة أفلام من أهم أفلامها السينمائية وهي التخشيبة، كشف المستور، وأبناء وقتلة، أيضًا قدمت 3 أفلام مع سعيد مرزوق هي: هدى ومعالي الوزير، قصاقيص العشاق آخر أفلامها، والمرأة والساطور وهو الفيلم الذي أثار ضجة كبيرة عند عرضه ومنع من العرض، وأيضًا من أفلامها التي حققت جماهيرية كبيرة فيلم الراقصة والسياسي، وقدمت عبيد أربع مسرحيات، وقدمت ما يقارب ستة مسلسلات تليفزيونية، وتسعة مسلسلات إذاعية.

النهاية المحسومة للجنون

الجنون الحقيقي حينما يصل بك غرورك لكونك تستطيع أن تكون كل شيء المتحكم الأوحد، والفاهم الأوحد، وألا ترى إلا ذاتك، لا تستمع لنصيحة، وعندما تعتقد أنك قد تملكت كل شيء تكون نهايتك.

يدخل أحمد أبو كامل شادر السمك وقد تسبب في إغلاق كل محال السوق، بل كاد أن يفلس كل التجار، ومتباهيًا أنه أحل الخراب على الجميع، يهبط من سيارته يتبختر بكبرياء وغرور كاذب على الحطام الذي خلفه.

قد صار المتحكم الذي يمنح ويمنع، يقف مختالًا بنفسه، عندها تنطلق رصاصات عدة من أسلحة متعددة، وكأن الجميع اتفق على الخلاص من هذا الجنون الذي يحيط بهم، كانت النهاية المحسومة لرجل ظن أنه امتلك الجميع، فجاءته رصاصات الجميع لتنهي مأساة عاشها شادر السمك في ظل سيطرة من تصور أن الدنيا قد دانت له، لحظة الإحساس بالانتصار الكبير والسير على الخراب، دائمًا ما تكون لحظة النهاية.

المصدر : الجزيرة مباشر