من دمار الزلازل إلى إعادة الإعمار
ضرب زلزال كبير مركزه بالقرب من مدينة غازي عنتاب جنوب شرق تركيا في الساعة 4:17 فجر يوم 6 فبراير/ شباط بلغت قوته 7.8 درجات على مقياس ريختر، وتبعت الزلزال عدة هزات ارتدادية كان من أقواها الهزة التي تركزت في الشمال الشرقي من غازي عنتاب بعد ذلك بتسع ساعات، ووصلت قوتها إلى 7.7 درجات.
أحدث الزلازل خسائر بشرية زادت على 40 ألف قتيل، وخلّف أعدادا كبيرة من الجرحى، ودمّر مئات الآلاف من المباني بشكل كامل أو جزئي. بادئ ذي بدء لا بد من التوقف لحظة نترحم فيها على ضحايا الكارثة ونسأل الله أن يتقبلهم في الصالحين وأن يشفي ويواسي المصابين في مأساتهم وأن يلهم أهلهم وذويهم الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كنت في لحظة وقوع الزلزال في مدينة إسطنبول وشعرت بالهزة، التي ذكرتني بتجاربي السابقة مع الزلازل أثناء سنوات إقامتي في جنوب كاليفورنيا، حيث شهدت تلك الفترة نشاطات زلزالية متعددة أو في السنوات الخمس التي قضيتها في اليابان وخبرت فيها الزلازل المتعدة وتابعت طبيعة الاستجابة للطوارئ هناك، وقد دونت بعضًا من تلك الملاحظات في كتابي “جذور نهضة اليابان”، كذلك أثناء عملي في المجال الإغاثي والإنساني الذي تطلب الاستجابة للعديد من الكوارث الطبيعية بالإضافة إلى ويلات الحروب والصراعات.
الغاية من هذه المقالة هي تلخيص تجربتي المحدودة لبيان طبيعة الزلازل والأضرار التي تترتب عليها وسبل الحد من الخسائر ومتطلبات الاستجابة للكوارث الطبيعية وعملية إعادة الإعمار.
الزلازل لا تقتل البشر
القشرة الأرضية عبارة عن ألواح طافية على جوهر الأرض السائل. هذه الألواح عبارة عن كتل كبيرة جدًّا تتحرك دائمًا، وهذه الحركة هي السبب وراء تموضع القارات بالشكل التي هي عليه الآن، وهي متغيرة وليست ثابتة، كذلك فإن حركة الألواح الأرضية هي السبب وراء بروز الجبال والعديد من الجزر.
يحدث الزلزال بسبب تحرك الطبقات الأرضية واحتكاك الألواح بعضها ببعض، وتعتمد قوة الزلزال على كمية الطاقة الناتجة عن الاحتكاك بين الألواح. الزلازل إذن ليست شيئًا غريبًا لأنها تحدث باستمرار وهناك الآلاف منها كل عام، إلا أن الغالبية العظمى منها صغيرة ولا يشعر بها الناس لكن أجهزة الرصد تسجلها.
بمناسبة الحديث عن الرصد، فلابد من الإشارة إلى أن المقياس المعتمد لقوة الزلازل عالميًّا كان مقياس ريختر، لكن هذا المقياس يصلح لقياس الهزات المتوسطة، ولذلك تم استبداله عام 1970 بمقياس شبيه يعتمد على قياس مقدار العزم بالنسبة للحركة الأرضية Moment Magnitude Scale (MMS)، وهو أكثر دقة لأنه يستخدم عوامل عديدة في قياس كمية الطاقة المطلوبة لإحداث الحركة الأرض. قوة الزلزال تقاس على مقياس لوغاريثمي، بمعنى أن الزلزال الذي تكون قوته 8 يكون أقوى بعشر مرات من الزلزال الذي يسجل 7 درجات.
تتفاوت الزلازل في قوتها، ويعتبر الزلزال الذي ضرب تشيلي عام 1960 ووصلت قوته إلى 9.5 درجات أقوى زلزال مسجل في تاريخ البشرية، فقد بلغ ذلك الزلزال من القوة بحيث أن الموجات البحرية التي تسبب فيها (تسونامي) وصلت إلى جزر هوائي التي تبعد عشرة آلاف كيلومتر بارتفاع حوالي 10 أمتار، وهذه الموجات وصلت إلى اليابان في النصف الشمالي من الكرة الأرضية بعد 22 ساعة من الزلزال وكانت على ارتفاع حوالي 8 أمتار.
أما من حيث الخسائر البشرية، فتتفاوت أعداد ضحايا الزلزال بحسب قوته وقرب مكان حدوثه من مراكز التجمعات البشرية والأهم من ذلك طبيعة المباني في المنطقة وقدرتها على مقاومة الزلزال. لذلك فإن أقوى زلزال في العالم، وهو زلزال تشيلي، لا يعد في قائمة أكثر الزلازل من حيث الخسائر البشرية، بسب طبيعة المنطقة التي تميزت بقلة الكثافة السكانية، وفي المقابل يعتبر الزلزال الذي ضرب مقاطعة شانكسي عام 1556، وتسبب في قتل 830 ألف ضحية، أكبر زلزال في التاريخ من حيث الخسائر البشرية. أما في العصر الحديث فأكثر الزلازل دمارًا من حيث عدد الضحايا، كان الزلزال الذي ضرب مدينة بورت أو برنس في هايتي عام 2010 وتسبب في قتل 316 ألف ضحية، يليه زلزال جزيرة سومطرة في إندونيسيا عام 2004 الذي تسبب في قتل 228 ألف شخص.
عامل آخر من العوامل التي تسبب ارتفاع أعداد الوفيات في الزلازل هو الموجات البحرية التي تحدث نتيجة الحركة في الألواح الأرضية وتدفع بالمياه بقوة باتجاه اليابسة خصوصًا عندما يحدث الزلزال في أعماق المحيطات، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك زلزال توهوكو الذي ضرب اليابان عام 2011 وتمركز في المحيط الهادي على بعد 70 كيلومترا من الساحل حيث بلغت قوته 9.1 درجات، وتسبب في قتل 20 ألف ضحية، ذهب معظمهم نتيجة التسونامي الذي نتج عن الزلزال حيث وصل ارتفاع الأمواج عند الساحل إلى أكثر من 40 مترا، وكانت من القوة بحيث جرفت بنايات وقطارات وسفنًا بدت فيها مثل لعب الأطفال.
كيف ننظر إلى الكوارث الطبيعية؟
تصور الإنسان للحوادث والأفعال أمر على درجة كبيرة من الأهمية، ومن هنا تأتي أهمية القاعدة الأصولية التي تقول “الحكم على الشيء جزء من تصوره”، فهذه القاعدة تشير إلى أهمية التصورات في حياة الإنسان وكيف أنها، إن صحت تكون عنصرًا مهمًّا في نجاح الإنسان، وإن أخطأت تكون عامل خسارة الإنسان وفشله. والسبب أن علم الإنسان محدود وقليل {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85)؛ لذلك تكون أحكامه على الأشياء والظواهر قاصرة {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} (الكهف: 68). وهذا يستدعي عدم التعجل في الحكم على ظاهر الأمر ومحاولة البحث الدائم عن المنحة في المحنة.
ذكرنا هذه المقدمة لأن التصورات حول الزلزال الذي حدث اختلفت بشكل كبير كما هي الحال في العديد من المصائب والكوارث، فمن قائل بأن الزلزال إنما هو عقوبة من الله للعباد على معاصيهم، ويستشهد ببعض النصوص الشرعية، وهي نصوص لا خلاف عليها، لكن استخدامها في مثل هذه النازلة قد يكون مصدر خلاف. فعلى سبيل المثال إيماننا بأن الله يعاقب البشر على أفعالهم، يجب أن لا يكون الأساس لتفسير جميع الكوارث، فمنها ما يكون عقوبة ومنها ما يكون غير ذلك، فقد عاقب الله قوم نوح بالأمطار الشديدة التي تسببت في الطوفان، فهل يعتبر كل مطر عقوبة؟ وعاقب الله أقوامًا بالريح العاصفة، فهل كل ريح عقوبة؟ كيف وهو سبحانه يقول {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22). وفي المقابل نجد من يفسر الحوادث من خلال الاكتفاء بشرح الطبيعة الجيولوجية لتحركات الألواح الأرضية التي تسبب الزلازل، وهي أيضًا لا خلاف فيها، لكنها يجب أن لا تنفي أقدار الله التي تسيّر كل شيء.
إن الفهم الإيجابي للكوارث هو أنها اختبارات للبشر، يقول تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35). يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: “ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة والعافية فنفتنكم به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، فقد قال ابن عباس: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} قال: بالرخاء والشدة، وكلاهما بلاء. وعن قتادة، قوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، يقول: نبلوكم بالشر بلاء، والخير فتنة، وإلينا ترجعون. قال ابن زيد، في قوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} قال: نبلوهم بما يحبون وبما يكرهون، نختبرهم بذلك لننظر كيف شكرهم فيما يحبون، وكيف صبرهم فيما يكرهون”. انتهى الاقتباس عن ابن كثير.
إن الشدائد تأتي أيضًا لتكشف للأفراد والأمم عن نقاط القوة والضعف، فتنتبه إلى نقاط القوة وتقويها وتعالج نقاط الضعف وتعمل على تقويتها. فالإنسان الناجح إذن لا يقف عند الكارثة، بل يعتبرها اختبارا وامتحانا، وعليه وعلى المجتمع تقديم الاستجابة المطلوبة التي تكون على شكل الإعانة والإغاثة للمصابين أولًا والبحث في سبل تطوير وسائل الوقاية مثل تطوير أنظمة البناء الذي يقاوم الزلزال، كما فعلت شعوب مثل اليابان التي طورت وقننت أساليب البناء المقاوم للزلازل، لذلك حصل تقليل كبير في أعداد الخسائر البشرية نتيجة تهدم البنايات، وقد شهدت ذلك بنفسي أثناء الزلزال حيث كنت أشاهد المباني العالية وهي تهتز مثل السعفة التي تحركها الرياح أثناء الزلازل القوية، كما أني قمت بزيارة لبعض المناطق التي ضربها الزلزال وزرت مفاعلات نووية لم يحدث فيها شرخ بسيط مع أنها كانت قريبة جدًّا من مركز الزلزال.
هذه النظرة الإيجابية إلى الكوارث التي رأيتها في اليابان تلخصها المقولة الشائعة هناك “تأتي المنح مغلفة بالمحن”، فالإنسان الناجح يتجاوز المحنة ليرى المنحة التي تكمن داخلها {فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء: 19). ولله درّ شاعر العرب الكبير عبد الله البردوني حين قال:
لا تَحسَبِ الأرضَ عَن إنجَابِها عَقِرتْ مِن كُلِّ صَخْرٍ سَيأتِي لِلفِدا جَبَلُ
فَالغُصْنُ يُنبِتُ غُصْنًا حِينَ نَقطعُهُ والليلُ يُنجِبُ صُبحًا حِينَ يَكتمِلُ
سَتُمْطِر الأرضُ يَومًا رغمَ شِحّتِهَا ومِن بطُونِ المَآسِي يُولدُ الأمَلُ
نعم الناجح هو الذي ينظر الى المحن على أنها مخاض الهبات والمنح، وأن المآسي هي رحم الأمل. والتاريخ خير شاهد على ما نقول، ومن يعي هذه الحقائق يسرع إلى العمل مهما كانت صعوبة الأحوال، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 105).
مراحل الاستجابة للكوارث
تمر الاستجابة للكوارث الطبيعية مثل الزلازل والحرائق والفيضانات والأعاصير بثلاث مراحل، وهي مراحل متداخلة، وكل منها لها متطلباتها الخاصة:
الإغاثة العاجلة (Emergency Response): وهي أقصر المراحل وتأتي فساعات أو أيام محدودة، يكون التركيز فيها على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البشر العالقين وتقديم الخدمات الطبية العاجلة للجرحى والمصابين وكذلك توفير الملاجئ للناجين.
مرحلة الاستقرار (Stabilization): وهي فترة أطول من فترة الإغاثة العاجلة؛ إذ تستمر مدة شهور وسنوات أحيانا، وتهدف إلى إعادة الحياة إلى شيء من طبيعتها، وتشمل توفير المأوى والطعام والملبس للمحتاجين وتقديم الخدمات الطبية ومنها الصحة النفسية للضحايا وتوفير المدارس للطلبة. وكذلك هدم المباني شبه المهدمة وإزالة الأنقاض وفتح الطرق والمعابر والمواصلات.
مرحلة إعادة البناء (Reconstruction): وهي أطول المراحل، وقد تستغرق سنوات وتحتاج إلى موارد وإمكانيات كبيرة، لأنها تهدف إلى إعادة ما دمرته الكوارث من مبان وطرق وجسور ومصانع، وقد يتطلب الأمر إعادة تأهيل القوى العاملة بسبب التغيير في طبيعة الأعمال في هذه المرحلة. وهنا لابد من تطوير وسائل جديدة تضمن عدم تكرار الأسباب التي ولدت الكوارث من خلال تحليل وفهم طبيعة الكارثة، فإذا كانت الخسائر بسبب الفيضانات فتكون الاستجابة ببناء السدود، وإن كانت بسبب الزلزال فتكون الاستجابة بوضع معايير تضمن عدم تصدع المباني بالزلزال، وإن كانت الخسائر بسبب الأمطار والسيول فتكون الاستجابة ببناء قنوات تصريف وجمع المياه، وغير ذلك.
هنا لابد من الإشارة إلى أمر مهم، وهو خطورة الفساد الإداري والمالي في العديد من الدول وخصوصًا الفقيرة منها، وأثره الهدام في بناء المجتمعات. ذلك أن الفساد هو من الأسباب القاتلة في المجتمعات، فمعظم الدول تمتلك المعايير المطلوبة في البناء مثلاً، لكن يتم تجاوزها عن طريق الرشوة، ويدفع الثمن الأبرياء، وقد رأينا العديد من المباني الحديثة التي كان من المفترض أن تقاوم الزلزال إلا أنها تهاوت وقتلت المئات، وهناك الكثير من الأمثلة عن دور الفساد في إنشاء المباني في أماكن الفيضان أو الأماكن المعرضة للحرائق التي تسببت في الخسائر المادية والبشرية نتيجة ذلك. وخطورة الأمر تستدعي تشكيل أجهزة رقابية على أساليب البناء يكون بإمكانها اكتشاف المخالفات بالإضافة إلى تشديد العقوبات على الفاسدين والمفسدين.
الاستفادة من تجارب الآخرين في إعادة الإعمار
إن الدمار الذي تحدثه الكوارث إذن هو دفعة قوية للناجحين نحو العمل، تقول الكاتبة الأسترالية نيكي رووي: “إن الأبطال الحقيقيين هم الذين يبنون حياتهم جاعلين من المآسي نقطة انطلاق نحو السمو في وسط الفوضى التي رمتهم بها الحياة”، أما الفاشلون فهم الذين يتجمدون عند المأساة ويندبون حظوظهم العاثرة، تشهد على ذلك تجارب الأمم والأفراد من النوعين، وقد استوقفتني تجربة إعادة إعمار هيروشيما بعد دمارها بالقنبلة النووية الأولى، وكيف استطاع أهلها أن يعيدوا بناءها لتصبح واحدة من أجمل مدن العالم. فما هي الدروس المستفادة من ذلك؟
الخسائر البشرية والمادية، على فداحتها والمأساة على قسوتها، ليست ما يهمنا هنا، إذ إن المطلوب منا هو أن نتعلم الدروس من المأساة وهذا قانون رباني فكلما كبرت المآسي ازدادت عظمة وأهمية الدروس المستفادة منها. والحقيقة أني زرت المدينة عدة مرات التقيت فيها بالعديد من سكان المدينة الذي عاصروا المأساة والتقيت بأبنائهم وأحفادهم والتقيت بالمسؤولين والمؤرخين والناشطين في المدينة لعلي أستفيد من هذه التجربة المأساوية. ولا شك في أني تعلمت الكثير وآليت على نفسي أن أنقل شيئا من تلك المعاناة علنا نأخذ منها العبر والدروس ولكي تبقى تلك الذكرى حية لكل الأجيال.
ولعل أهم الدروس التي استفدتها كان من لقاء لي بالدكتور أكيبا عمدة المدينة وهو حاصل على الدكتوراه في الرياضيات وأستاذ سابق للرياضيات في معهد ماساتشوستس في الولايات المتحدة الأمريكية وترك عمله هناك ليعود إلى مدينته ناشطا في عملية السلام وليترشح عضوا في مجلس النواب، ثم يترك المنصب ويرشح نفسه ليصبح عمدة المدينة ليستخدم المنصب في سبيل نشر قصة المدينة والمأساة التي أصابتها والدروس والعبر المستفادة والعمل في سبيل تحقيق السلام العالمي. يقول السيد أكيبا إن أهالي هيروشيما أو قل إن من بقي منهم من الذين تركوا ليضمدوا جراحهم وليتحملوا معالجة آثار المأساة قد اتخذوا لأنفسهم ثلاثة شعارات هي:
التمسك بالحياة؛ فقد كان من السهل على أي إنسان يعاني مثل ما عانوا أو حتى دون ذلك بكثير، فقدان الرغبة في الحياة والاستسلام، لكنهم آثروا تأكيد الرغبة والصراع من أجل البقاء. وللتدليل على ذلك فقد سارعوا إلى القيام بكل ما شأنه التدليل على عودة الحياة إلى المدينة التي كان الموت حاضرا فيها في كل مكان، ولعل أكثر ما جلب انتباهي في متحف المدينة هو صورة لأول مدرسة أقيمت على قارعة الطريق وبين الأنقاض لمجموعة من الأطفال وهم يجلسون على حجارة الأنقاض التي حولوها إلى كراسي للدراسة مع معلمهم الذي يستخدم قطعة من الخشب يعلم عليها الأطفال.
مدرسة على الأنقاض في هيروشيما
إيصال قصة معاناتهم إلى العالم مع ما يعني ذلك من أن الحديث عن التجارب القاسية هو عبارة عن معايشة المأساة مرة أخرى، ذلك أن فطرة الإنسان الذي يمر بتجارب قاسية تجنح به نحو النسيان لكن أولئك الشجعان قرروا أن يسموا فوق معاناتهم الشخصية وأن يواجهوا معاناتهم المرة بعد الأخرى وهم يصفون تجاربهم ومعاناتهم للعالم آملين أن تتحول معاناتهم إلى دروس يستفيد منها العالم وجميع المحبين للسلام في جهودهم من أجل القضاء على أسلحة الدمار الشامل التي تتنافى مع جميع القيم السامية التي يمكن أن يقوم عليها بناء أي مجتمع متحضر.
لقد قرر أهل هيروشيما أو قل إن شئت من بقي منهم أن يعيدوا بناء مدينتهم كجزء من إعادة بناء حياتهم وذلك على الرغم من صعوبة الأمر مع ضخامة الجراح وتشكيك المشككين، لكنهم عزموا أمرهم وشمروا عن ساعد الجد في بناء مدينتهم مع ما يتطلبه ذلك من ترك الرغبة في الانتقام، ذلك لأن حب الانتقام والرغبة في البناء لا يمكن أن يجتمعا في قلب إنسان واحد، كما أخبرنا السيد أكيبا. نعم لقد قرر أولئك الشجعان أن يعيدوا بناء مدينتهم المدمرة وأن يجعلوا بناءها شاهدا على قدرة الإنسان اللامتناهية في الصمود ولقد صدق الشاعر:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
عوامل النجاح في إعادة الإعمار
إن إعادة الإعمار بالنسبة للمناطق المنكوبة لن تكون يسيرة، وهو ما يستدعي مقاربة على درجة عالية من الفاعلية والتنظيم تشمل العناصر الأساسية التالية:
توفير الموارد المالية: إعادة البناء سوف تتطلب موارد مالية كبيرة جدًّا، تقدر في تركيا فقط بنصف ترليون دولار، فضلًا عن شمال سوريا الذي حل فيه دمار الزلزال فوق دمار الحرب الأهلية، وهنا يبرز دور القيادة التي عليها أن تسهر ليل نهار لكي تقوم بتوفير الموارد المطلوبة لإعادة الإعمار من خلال التواصل مع المنظمات العالمية والدول المانحة وعامة الناس الذين ساهموا ويمكن أن يساهموا في تقديم الدعم.
التخطيط الدقيق: حجم الدمار يتطلب وضع خطط إستراتيجية دقيقة، أساسها رؤية واضحة لوضع المناطق المنكوبة لما بعد الإعمار، وتحديد أولويات عملية الإعمار ووضع سياسات ومعايير واضحة لما سيكون بعد الإعمار، والاستفادة من دروس الزلزال.
العمل الدؤوب: جهود إعادة الإعمار سوف تشمل أعمالا يقوم بها عشرات، لا بل مئات الآلاف من البشر العاملين في قطاعات مختلفة؛ ولذلك فسوف تتداخل الجهود وتشتد المنافسة على الموارد، وهذا يتطلب وضع قيادات إدارية ومهنية على رأس عملية إعادة الإعمار تمتلك الرؤية والخبرة والمصداقية تقوم بتحديد الأدوار والتنسيق بين العاملين، وتحسن التواصل مع جميع المهتمين والمساهمين.
ولنتذكر دائمًا أن المحن هي رحم ولادة الأمم العظيمة والقادة الذين غيروا مجرى التاريخ، إذا ما أحسنت إدارتها، لكنها في نفس الوقت قد تكون كفن الأمم ومقبرة للأحياء قبل الأموات، الذين يفوتون الفرص، وما أجمل الوصف القرآني: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء: 79).