جيوش السودان.. نيران ليست صديقة!

حميدتي قائد قوات الدعم السريع

 

أكبر وأهمّ التحديات التي تواجه الدولة السودانية، حاليًّا ومستقبلًا، هو دمج الميليشيات والحركات المسلحة داخل الجيش السوداني، وجمع السلاح من المواطنين، وخلق ظروف مثالية للحياة، بعيدًا عن لعبة الوصول إلى السلطة عبر القتال، وصناعة الجيوش لخدمة أهداف سياسية ذاتية، وأحيانًا لأهداف خارجية، كما يحدث في ليبيا وبعض دول الجوار.

اشتروا بنادق

من المؤسف أن كثيرًا من أقاليم السودان باتت تفكر في صناعة جيوش خاصة لحماية ثرواتها والدفاع عن سكانها، وذلك حين أدركت أن الحقوق تُنتزع بالقوة، وأن السلطة المركزية تقوم فقط بإرضاع الطفل كثير الصراخ، أو من لديه أظفار تنهش في المواضع الحساسة، وفي ظل السيولة الأمنية والنهب المسلح أخيرًا شاعت دعوات وسط الأسر لشراء البنادق، من أجل حماية أنفسهم وأموالهم.

لدينا الآن القوات المسلحة السودانية، وهي الجيش النظامي، وقوات الدعم السريع بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان حميدتي، وهي صنيعة المشير البشير، لكنها انقلبت عليه، وجيش حركة العدل والمساوة بقيادة وزير المالية جبريل إبراهيم، وجيش تحرير السودان بقيادة أركو مناوي حاكم إقليم دارفور، إلى جانب قوات مالك عقار وقوات الهادي إدريس والطاهر حجر، وهؤلاء هم أعضاء مجلس السيادة الحالي، والغريب في الأمر أن بعض هذه القوات تقاتل في ليبيا إلى جانب الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، فضلًا عن قوات عبد العزيز الحلو التي تُعرف بجيش التحرير، وتحتل منطقة كاودا في جنوب كردفان، وحركة تمازج، حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور التي تتمركز في منطقة جبل مرة بدارفور.

خيارات المواجهة والصدام

لم تنحصر قصة الجيوش وتناسلها في مناطق الحرب فقط، وإنما أغرى هذا الوضع شخصيات عسكرية لإعلان حركات مطلبية في وسط وشرقي السودان، مثل “قوات كيان الوطن” بقيادة الناطق الرسمي السابق للجيش العقيد الصوارمي خالد سعد، وقوات درع البطانة بقيادة اللواء أبو عاقلة كيكل، إلى جانب قوات تحالف حركات وأحزاب شرقي السودان بقيادة الفريق شيبة ضرار، والسمة الغالبة على قوات الشمال والشرق أنها تعتمد على ضباط متقاعدين، وكثير من أبناء المنطقة أنفسهم، في تحديد خيارات التصعيد، لكنها لم تعلن الحرب على الدولة، وإنما اكتفت بالتعبير عن المظالم والتهميش بصوت أعلى، والمطالبة بالتمثيل في الحكومة وكل الوحدات التنظيمية، وكلها حركات مسلحة وميليشيات، عبارة عن قنبلة موقوتة، وشرارة إن لم يتم التعامل معها بحكمة سوف تحرق الأخضر واليابس في السودان، ويمكن أن تكرّس لمطالب انفصالية جديدة، أسوة بالجيش الشعبي الذي فصل جنوب السودان.

خلال الأيام الماضية تحدثت قيادة الجيش، لأول مرة وبصورة رسمية، عن ضرورة دمج قوات الدعم السريع داخل القوات المسلحة، وردّ عليهم قائد الدعم السريع الذي يحظى بدعم بعض الدول الخليجية، أنه يوافق على الدمج ولكن شريطة أن يتم ذلك وفقًا لجدول زمني في الاتفاق الإطاري، ويعني حديثه أن الدمج رهين بتنفيذ خارطة الطريق التي وضعتها البعثة الأممية، ويرفضها الجيش بشكلها الحالي، وهذا يعني أن خيارات المواجهة والصدام لا تزال قائمة، خصوصًا وسط حالة الاستقطاب السياسي والأجواء المشحونة بالكراهية، ونشاط أجهزة الاستخبارات الخارجية، التي تسعى لتفتيت السودان، وضرب وحدته، ليسهل لها بعد ذلك السيطرة عليه.

هيكلة أم تفكيك؟

ليس بعيدًا عن ذلك، فقد برز العديد من المخاوف بشأن مستقبل الجيش السوداني في ظل تنامي الدعوات الخارجية والداخلية لإصلاح المؤسسة العسكرية، أو بالأحرى إعادة هيكلتها، وجاء رد فعل قيادة الجيش، رافضة تلك الدعوات، إذ يعدّونها غير بريئة، وتريد النيل من الجيش الذي ظل يقاتل أكثر من خمسين عامًا، دون أن ينهار أو يتنازل عن عقيدته العسكرية، مما يفتح الباب واسعًا أمام تساؤلات عديدة: هل القصد من تلك الدعوات هيكلة الجيش السوداني ومنع الانقلابات العسكرية مستقبلًا، أم تفكيكه بالمرة واجتياح السودان؟ لا سيّما وأن الكونغرس الأمريكي أقر في 11 سبتمبر/أيلول 2020، مشروع قانون دعم الانتقال الديمقراطي في السودان، الذي تحدّث صراحة عن إصلاحات القطاع الأمني، والسيطرة المدنية على القوات العسكرية، ومراقبة أموال الجيش السوداني والأجهزة الأمنية، والكشف عن أسهمها في جميع الشركات العامة والخاصة. لكن أمريكا من تحت تتعاون مع الجيش، ولا تهمها قضية التحول المدني والديمقراطي، فقط تريد صناعة حليف قوي يوقف لها التمدد الروسي في المنطقة، هذا كل ما يهمها.

من هنا يأتي الخطر على الدولة

أما رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك الذي تحدّث عن أن قضية إصلاح القطاع الأمني والعسكري، قضية وطنية شاملة، لا تقتصر على العسكريين، فقد كان يعبّر عن رأي بعض القوى الثورية، أو بالضبط الذين صاغوا له ذلك الخطاب، وهو ما عجل بالانقلاب العسكري عليه، خصوصًا أن حمدوك لم يكن ثوريًّا، وبدا أقرب إلى العساكر في أيامه الأولى، لكنه أيضًا كان يقرأ من ورقة أعدتها قوى الحرية والتغيير في السر، تضمنت أسس ومبادئ تكوين قوات مسلحة جديدة، تكون قاعدتها قابلة للتوسع عند اللزوم كالقوات السويسرية، فضلًا عن اعتماد نظام الخدمة الوطنية لسد الفرقة في القوة البشرية، وضبط الصرف العسكري، وإلزام القوات المسلحة كمؤسسة بعقيدة عسكرية محددة، والالتزام بالديمقراطية شرعية للحكم، بحيث يصبح القرار السياسي هو الأول. في حين ترى قيادة الجيش أن الهيكلة عملية عسكرية بحتة، وهي كذلك عملية فنية روتينية تتم في فترات محددة، ونتيجة لتجارب العمليات والمناورات الحربية سواء كانت عمليات خارجية أو داخلية، وأنها لن تسمح لقوى سياسية غير منتخبة بالتدخل في الشأن العسكري، وضرب العقيدة العسكرية المستمدة من قيم الشعب وموروثاته، ونتيجة لذلك حافظت على كيان الدولة، وصمدت أمام حرب الاستنزاف، وشد الأطراف من خلال نشوء حركات التمرد.

الآن باتت الحاجة ماسّة وملحة إلى التعامل مع الجيوش غير النظامية، ليس بتفكيكها أو أخذها بالقوة، والاستمرار في حماية مصالح النخب الفاسدة، ولكن بجراحة عميقة، تضع حدًّا لجدلية المركز والهامش والوسط أيضًا، وتتعامل بجدية مع قضية التنمية، والدخول مباشرة في تتفيد الترتيبات الأمنية، ودمج القوات وفق رؤية فنية واضحة، لأنها واحدة من مظاهر الأزمة السياسية، وبتجاهلها سيتفاقم الخطر، وسيضطر الناس، في وقت قريب، إلى حفر خنادق أمام منازلهم.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان