إسطنبول.. في محبة المدينة التاريخية

للمدن التاريخية سحرها الخاص، كالقاهرة ودمشق وبغداد وروما، وأعتقد أن طهران لها الملامح التاريخية ذاتها مثلها مثل عدن وصنعاء في اليمن، وأيضًا هذا السحر يمتزج بالجمال الفريد إذا اقترن بالبحر، وللإسكندرية قديمًا عشقها وعشاقها، فإذا امتزج التاريخ العتيق مع الساحل والبحر صارت المدن أكثر روعة وجمالًا، وهذا ما تجده في تلك المدينة الفريدة المسماة إسطنبول، عاصمة التاريخ والسياحة في تركيا.
منذ اللحظة الأولى التي وطأت قدمي إسطنبول منذ ست سنوات، أحسست أنني في مدينة قريبة إلى القلب، فهي تحمل في ملامحها طعم القاهرة التاريخية عشقي الأول في العمارة والألفة والدفء، والإسكندرية عاصمة الحب والبهجة والشباب والمرح.
كعربي لا أشعر بغربة في مدينة يؤذن فيها للصلاة خمس مرات يوميًا من قرابة 4000 مئذنة يوميًا، خاصة إذا كان صوت المؤذن قريبًا من الأذان المصري، فأغلب مؤذني الصلاة في محيط تجوالي فيها من خريجي الأزهر الشريف، ولا عجب أن تجد منهم تاجرًا أو بائعًا في سوق من أسواق المدينة، أما قراءة القرآن فهم أقرب جدًا إلى أصوات مملكة التلاوة المصرية.
الروح التاريخية تشع في الأماكن كلها خاصة في منطقة خليج القرم وبالقرب من مضيق البوسفور، فهذه المنطقة هي القسطنطينية القديمة، وهي مزيج من العمارة الرومانية القديمة مع الحضارة الإسلامية التي حمل ملامحها الفنانون المصريون بعد فتح مصر في منتصف القرن السادس عشر، وملامح العمارة الإسلامية بما أضافه المعماري الأول في العمارة الإسلامية العثمانية المهندس سنان.
أينما كنت في إسطنبول القديمة أي في منطقة الفاتح ستسمع وترى اسم المهندس سنان في كل مكان، مع معماريين آخرين شيدوا العمارة العثمانية، وأهم ملامحها المساجد، القصور، والحمامات، والأسبلة، والتكايا- وللتكية في تركيا تاريخ يستحق توقفًاـ والمدراس القديمة، وأينما وليت وجهك في منطقة الفاتح ستتوقف كثيرًا أمام الأبنية والأسوار والقلاع.
سحر منطقة الفاتح
منطقة الفاتح هي المنطقة التاريخية في إسطنبول، وما من زائر في تركيا إلا وتكون تلك المنطقة وجهته الأولى، وتتسع المنطقة لتشمل منطقة السلطان أحمد، بايزيد، أمينونو، كراكوي، الفاتح الحي، تقسيم، وتتعدد وجهات القادمين إلى تركيا في هذه المنطقة، وفي العبور إلى تلك المناطق لا بد أن يلفت نظرك طبيعة المدينة المكونة من سبع تلال وما بين ارتفاعات التلال السبع وسهولها بنيت المدينة التي ترتفع وتنخفض فيها بقلب لا بد أن يكون صلدًا ليتحمل طبيعة الأرض التي تضيف جمالًا إلى الروعة التاريخية والساحلية.
إسطنبول مدينة التاريخ الممتد، ومن أبرز الأماكن التي تعكس هذا الملمح منطقة السلطان أحمد، ففي ساحة المسجد الأزرق ذي القبة الثُمانية المماثلة لقبة المسجد الأقصى في القدس تتجاور العمارة التاريخية القادمة من أعماق التاريخ.
في طرف الساحة أقصى اليمين عند دخولك الساحة توجد المسلة الفرعونية، مسلة جاءت من الأقصر في العصر الروماني واستقرت في تلك الساحة، مسلة عمرها يتجاور الألفي عام، بينما على أقصى اليسار، وعلى الطرف الآخر من المسلة، مسجد آيا صوفيا، هذا المسجد الذي يعود تاريخه إلى العصر الروماني، وقد كان كنسية بنيت على أطلال معبد يهودي قديم.
كان آيا صوفيا أول مكان أذن فيه للصلاة بعد فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وبين المسلة الفرعونية ومسجد آيا صوفيا هناك مسجد السلطان أحمد نموذجًا للعمارة العثمانية، بساحته الواسعة وزخارفه ومآذنه الست، وأمامه ستجد النافورة الثُمانية المهداة للسلطان عبد الحميد الثاني من إمبراطور ألمانيا، وبالجوار يمكنك أن تزور حمامات عثمانية قديمة، وبالإضافة إلى الأسوار والحدائق التي يعود تاريخها إلى عصور رومانية وإسلامية.

أسواق إسطنبول
متعة الزيارة في تركيا في أسواقها التاريخية، ومن أشهر الأسواق في إسطنبول السوق الكبير أو الجراند بازار وهو أكبر الأسواق في إسطنبول التاريخية إذ تبلغ مساحته 37 ألف متر، وهناك 18 بوابة للسوق الذي أنشأه محمد الفاتح ليكون سوقًا للمجوهرات والملابس بالقرب من قصر السلطان، فتحول في أواخر القرن السابع عشر إلى السوق الأكبر في العالم مع سيطرة الدولة العثمانية على طرق المواصلات في العالم.
السوق المغطى بالكامل، ويسمى السوق المسقوف مكون من شارعين رئيسين وأكثر من 67 شارعًا جانبيًا، وفيه 5 أماكن للصلاة، وأماكن لمكوث التجار الذين كانوا يأتون في الماضي للتجارة، و8 نافورات للمياه، ويعد اليوم من أهم الأسواق التي يحرص زوار تركيا كلهم على زيارته.
أما السوق الثاني والأكثر أهمية في تركيا فهو السوق المصري، وهو السوق القديم للبهارات والأقمشة القادمة من الهند، وكانت القاهرة محطة متوسطة بين الهند وإسطنبول فسمي السوق المصري، ويقع في منطقة أمينونو وعلى ساحل مضيق البسفور المضيق الذي يفصل إسطنبول الأوربية عن الآسيوية، بجواره الجامع الجديد، هذا المسجد القديم والذي أعيد ترميمه وافتتحه الرئيس التركي منذ شهر تقريبًا.
يقال إن بناء الجامع الجديد في منتصف القرن السابع عشر كان سببًا في إنشاء السوق المصري، فقد أقيم السوق مكان سوق شعبي قديم، وكانت فكرة السوق أن يكون عونًا في تقديم المسجد معونات وخدمات للمسلمين.
بالقرب من السوق المصري هناك ميناء أمينونو على مضيق البوسفور، واحد من أشهر الموانئ التاريخية في أوربا قديمًا، بل أن الحي نفسه سمي باسم أمينونو نسبة إلى أمين الجمارك في الميناء، ومعناه أمام الأمين، وبالطبع توجد رحلات عبور بين إسطنبول الأوربية والآسيوية عبر الميناء والمضيق، كما توجد ثلاثة جسور عابرة بين الطرفين هي جسر سليم الأول، ومحمد الفاتح، وجسر البسفور وهو الجسر الذي سمي 15 تموز تخليدًا لشهداء الانقلاب الفاشل عام 2016.

أبراج إسطنبول
العديد من الأبراج التاريخية التي توجد في مدينة إسطنبول أشهرها برج جالاتا واحد من الأبراج التي لا بد للزائر إلى تركيا أن يزورها، وهو الوحيد المتاح الآن في انتظار افتتاح برج الفتاة الذي يقع في وسط مضيق البوسفور.
ولبرج الفتاة حكاية أسطورية قديمة تحكي عن ملك تنبأ له عراف أن ابنته ستموت بلدغة ثعبان، فقرر الملك أن يبني لابنته برجًا خاصًا بها في قلب المضيق حتى لا يصل إليها أي ثعبان أو عقرب، ولأن الحذر لا يمنع القدر يقال إن سلة فاكهة أرسلت للأميرة وكان فيها ثعبان فلدغها وماتت، ولذا يسمى البرج ببرج الفتاة.
ثالث الأبراج الشهيرة في المنطقة القديمة في إسطنبول فهو برج النار ويقع في منطقة بيزيد بالقرب من جامعة إسطنبول التاريخية والسوق الكبير، وتستخدم الأبراج في إسطنبول للإشارة إلى حالة الطقس، حيث تستخدم ألوان إضاءة الأبراج للتعبير عن حالة الجو، ممطر أو مشمس أو مضطرب.
سحر إسطنبول لا يكتمل إلا بالاهتمام بتلك الأماكن والحرص على ترميم أماكنها السياحية والتاريخية لتظل تلك الأماكن محتفظة برونقها التاريخي والمعماري التاريخي، وهو ما تحرص عليه الدولة التركية التي بلغ عدد زوارها العام الماضي 51 مليون سائح كان نصيب إسطنبول منها 15 مليونًا، ولا يزال لإسطنبول الكثير من الحكايات التاريخية والسياحية الساحرة.
