عن “خيري علقم” والسادة الشهداء في القدس.. وعوامل التكوين
“كلّما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة” هكذا قال النّفري في كتابه (المواقف)، ولم يكن هذا الإمام الصّوفيّ يدري أنّ عبارته هذه سيردّدها الزّمان لتغدو قاعدةً يستند إليها النّاس في العوالم المختلفة من السّياسة والفكر والفنّ والأدب.
غيرَ أنّ هذه العبارة هي التي تقفز إلى عقلي وتنتصب أمام عيني كلّما حاولت الكتابة أو الحديث عن ذلك الشّاب الذي لم يجاوز إحدى وعشرين سنة من عمره، ويعيش في القدس حاملًا الهويّة الزّرقاء، ولم ينتسب يومًا إلى أيّ تنظيم أو فصيل فلسطينيّ، لكنّه أوقف الكيان الغاصب على قدم واحدة، وأبكى قادته المتغطرسين، وتركهم يدورون حول أنفسهم مثل حمار الرّحى لا يدري أين منتهى المسير.
نعم، تضيق العبارة أمام اتساع وضوح المشهد وروعته وجلاله وجماله، وتهرب الكلمات خجلًا من نفسها لعجزها عن التعبير، وتجثو العبارات معلنةً استسلامها بين يدي سيّدنا الشهيد الجميل.
التّكوين النّفسيّ لخيري علقم وشباب القدس
“خيري علقم” ببساطة هو شاب فلسطينيّ في مقتبل العمر، وفي أوج الشباب، طموحاته كبيرة، لا يختلف عن الشباب في حبّه للحياة، وروحه المرحة، وتدفقه بالحيويّة، وهو يمثّل نموذجًا حيًّا لكلّ الشباب الفلسطينيّ الذي يعيش تحت الاحتلال الصّهيونيّ في القدس، فهم شباب مقبل على الحياة رغم كلّ ما فيها من قسوة وشظف، ولهم أمنيات ككلّ الشّباب في الدنيا تتعلّق بالدراسة والعمل والاستقرار الأسريّ، غيرَ أنّ أمورًا عديدة أسهمت في تكوين خيري العلقم النّفسيّ والفكريّ هي ذاتها التي تسهم في بناء توجهات كلّ شاب فلسطينيّ في القدس أو في الضفّة الغربيّة أو عموم أرضنا المحتلّة.
العامل الأوّل: الاحتلال الصّهيونيّ
فقد نشأ خيري علقم في أحياء القدس، وهو يعاين جنود الاحتلال الذين يجوبون شوارع المدينة بغطرسة وخيلاء، وترعرع على أنّ هؤلاء غرباء دخلاء مغتصبون، فلم تتطبّع نفسه مع فكرة القبول بهم على الرغم من كلّ محاولات الاحتلال إلهاء الشباب المقدسيّ وإفساده بكلّ ما يمكن أن يخطر ببالك من الوسائل النفسيّة والأخلاقيّة والاقتصاديّة.
إنّ بقاء صورة الصّهيونيّ في نفوس الشباب الفلسطيني قبيحةً دخيلةً لا تجمّلها كلّ مكياجات التّطبيع وأصبغة التّلميع من أهمّ ما يصوغ الموقف النّفسيّ والفكريّ الرّافض للاحتلال والمنتفض في الأعماق ليتولّد على هيئة عمليّات فرديّة بطوليّة بين فينة وأخرى.
العامل الثّاني: المسجد الأقصى المبارك
“يا نفس إن لم تقتَلي تموتي، ونحن لا نرفع أيدينا إلا لله، ولا نسجدُ إلا لله، ولا نسمع إلا من رسول الله” هذه الرّسالة كانت آخر ما نشره خيري علقم بصوته على حسابه في تطبيق (تيك توك) مع صورة له من داخل المسجد الأقصى بعد أدائه صلاة الجمعة، لينطلق بعدها في مساء اليوم ذاته باتجاه مستوطنة “نيفيه يعكوف” أي “النّبي يعقوب” المقامة بالغصب والعدوان على أراضي بلدة بيت حنينا شرق القدس، وليس معه سوى مسدّسه الذي فعل بالمحتلين ما لم تفعله الجيوش التي صدئت أسلحتها في مخازنها منذ عقود.
إنّ وجود المسجد الأقصى المبارك ومركزيّته بوصفه ثالث مقدّسات المسلمين على مستوى الأمة كلّها، وبوصفه السّبب الرئيس في مكانة وقداسة فلسطين وبركتها أرضًا وشعبًا، له الإسهام الأهمّ في تكون خيري علقم وعموم الشباب المقدسيّ والفلسطيني تحت الاحتلال الصّهيونيّ.
إنّ المسجد الأقصى هو أهم أسباب وعوامل الحفاظ على هويّة الشباب الفلسطينيّ، هويّتهم الإيمانيّة، إذ إنّ الارتباط بالأقصى المبارك يعزز الإيمان واليقين بهذا الدّين، كما أنّه أحد أهمّ أسباب الحفاظ على هويّة الصّراع مع المحتلّ الصّهيونيّ، فالمسجد الأقصى المبارك هو عنوان معركة الإرادات ومعركة كسر العظم، وحضور هذه المعركة في واقع الشباب المقدسيّ والفلسطينيّ هو أحد عوامل نشأتهم على الارتباط بقداسة الأقصى المبارك، ونشأتهم على فهم طبيعة الصّراع مع المحتلّ الغاصب، ونشأتهم على الغضب الكامن الذي ينمو بتسارع في أعماق النفس ليخرج على هيئة عمليّات تهزّ أركان هذا المحتلّ الغاصب.
العامل الثّالث: الذّاكرة المكتنزة بالظلم
في عام 1998، قتل المستوطن حاييم فلرمن المقدسيّ خيري علقم طعنًا بالسّكين، وعندما رُزق ابن الشّهيد خيري بمولود سمّاه على اسم أبيه خيري علقم، فنشأ الحفيد خيري وذاكرته مكتنزة بالظلم الصّهيوني، والثّأر العادل تتوهّج جمرته يومًا بعد يوم، لتخرج من غياهب الذّاكرة فتحرق في الواقع من قتلوا وشرّدوا وسفكوا الدّماء.
وكما كانت ذاكرة خيري علقم مكتنزة بكلّ الثّأر، فإنّك لا تكاد تجد أحدًا من شباب القدس أو أبناء فلسطين إلّا وقد نصب الصّهاينة في ذاكرته منارًا من دم يوحي له بالثّأر في كلّ أوقات حياته.
هذه العوامل الثّلاثة من أهمّ العوامل التي أسهمت في التكوين النفسي والفكريّ للشهيد خيري علقم، وهي ذاتها العوامل التي تصوغ العمق النفسيّ والفكريّ للشباب المقدسيّ والفلسطينيّ في ظلّ الاحتلال الغاصب، ممّا يؤكّد أنّ العمليات لن تتوقّف عند خيري علقم، فكلّ شاب مقدسيّ هو مشروع خيري علقم، وهو “ذئب منفرد” وعنوان ثأر قادم يقضّ مضجع الاحتلال الغاصب.
لقد أعاد الشهيد خيري تعريف العلقم، ليستشعر المظلومون في كلّ مكان أنّه أحلى من الشّهد وألذّ من العسل، ما دام يتجرّعه القتلة الغاصبون مرًّا يسوء وجوههم ويقذف الرّعب في قلوبهم.
إنّ العوامل التي أسهمت في تكوين شهيدنا الجميل خيري علقم وكلّ شباب القدس وفلسطين هي الكفيلة بفشل أيّ محاولة لصياغة “الفلسطينيّ الجديد” الذي يتماهى مع الاحتلال الصّهيونيّ، ويكون همّه تحصيل رزقه ونيل رفاهيته الماديّة، ممسوح الذّاكرة وممسوخ التوجه وفاقد الإحساس بالظّلم.
سيبقى سادة الجمال سلسلةً لا تنتهي، فقبلَ خيري علقم كان سادةٌ شهداء وبعده سيبقى السّادة الشهداء إلى أن ينجلي عن أرضنا رجس الصهاينة الغاصبين، ونحن نردّد كلّما مضى خيري علقم أو أحد إخوانه الأبطال ما قاله السّموأل:
إذا سيّدٌ منّا ماتَ قامَ سيّدٌ
قؤولٌ لما قالَ الكِرامُ فعولُ
وما أُخمِدتْ نارٌ لنا دونَ طارقٍ
ولا ذمَّنا في النازلين نزيلُ