السياسة في رمضان: لا تقرأ هذا المقال!!

مسلمون من الهند يتناولون الإفطار في باحة أحد المساجد

السؤال الأول الذي يمكن أن يتبادر إلى الذهن عندما تكتب تحت هذا العنوان، هل تهتم بالسياسة في رمضان؟ هل تتابع الأخبار حول القضايا والتحولات السياسية في رمضان كما كنت تتابعها قبل رمضان؟ إذا كانت الإجابة بالنفي؟ هل فكرت في الأسباب التي تقف وراء تراجع الاهتمام ولو نسبياً في رمضان عن غيره؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب يكون السؤال ولماذا لم يتراجع الاهتمام رغم طبيعة الشهر وما يرتبط به من أمور تدفع البعض دفعاً نحو تغيير أولوياته وإعادة ترتيب اهتماماته؟

أو أنك يُمكن أن تجيب مباشرة أنني لا أهتم بالسياسة لا في رمضان ولا في غير رمضان، وأنه يكفي ما نعايشه يومياً من مشقات وصعوبات والجري الذي لا يتوقف خلف الرزق وتوفير الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، في ظل تحولات السياسة والساسة التي في أغلبها تكون على حساب أرزاقنا واحتياجاتنا.

وقد يأخذك السؤال إلى مسارات بديلة، وتقول إن رمضان هو السياسة، والسياسة هي رمضان، ولما لا وفتوحات المسلمين الكبرى كانت في رمضان، وانتصاراتهم في مراحل حضارتهم الزاهرة كانت في رمضان، وإن رمضان كعبادة هو شهر لسياسة النفس وترويضها قبل التفكير في سياسة الآخرين وترويضهم في ظل التعقيدات التي لا تنتهي والصراعات التي لا تتوقف، وما إن يُغلق منها باب تُفتح عشرات الأبواب.

كل ما سبق يبدو صحيحاً ومقبولاً ومنطقياً، لكنه ليس محل اتفاق بين الجميع، وعدم الاتفاق أيضاً يبدو صحيحاً ومقبولاً ومنطقياً، لأننا في الأخير بشر تختلف توجهاتنا وأراؤنا ونظرتنا للأمور ليس فقط باختلاف المرجعيات التي ننتمي إليها، أو باختلاف القيم والمعتقدات التي ندين بها، أو باختلاف العادات والتقاليد التي نشأنا في ظلها، ولكن تختلف كذلك باختلاف المراحل التي نمر بها، وما تشهده هذه المراحل من تحولات وتغيرات، قد يذهب بنا بعضها للخروج عن المرجعيات والمعتقدات والتقاليد والعادات.

 

قضايا ما قبل رمضان

قبل رمضان كان تركيز معظم الساسة –على الأقل في منطقة الشرق الأوسط- حول تطورات الحرب الروسية في أوكرانيا، وعودة العلاقات السعوديةـ الإيرانية، والتقارب بين مصر وتركيا، وتطبيع عدد من النظم العربية مع نظام بشار الأسد في سوريا، والحضور الصيني المتنامي في المنطقة، وتحولات الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتداعيات كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا في فبراير 2023، والوضع المتأزم في فرنسا، وغيرها الكثير والكثير من القضايا والتحولات التي ترتبط في أغلبها بأزمات وصراعات، تتجدد وتتمدد مع وجود عوامل تحفزها على البقاء والاستمرار، بل والتحوير والتدوير.

المسلسلات وبناء البطولات والانتصارات

وفي رمضان هل خفت حدة الاهتمام بهذه القضايا، مع الهجوم الإعلامي السنوي في مثل هذا التوقيت للمسلسلات التليفزيونية، التي يتم توظيفها من جانب بعض النظم السياسية للإلهاء والإشغال عن القضايا الكبرى؟ وإثارة الكثير من الجدالات والمشكلات العبثية التي لا قيمة لها أمام ضغوط الحياة اليومية؟

الواقع يقول إن هذه المسلسلات، وخاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة، أصبحت مصدراً من مصادر الإشغال السياسي، بل والإزعاج السياسي للكثيرين، وبدلاً من أن تكون هذه المسلسلات وسيلة للترويح والتخفيف من الضغوط الحياتية أصبحت مصدراً من مصادر الأزمات السياسية، وترسيخ الانقسامات المجتمعية، وبناء بطولات وهمية وانتصارات زائفة، لمن فشلوا في تحقيق إنجازات حقيقية وانتصارات واقعية في المجالات والمستويات التي يقومون عليها.

وأصبح تصدير الوهم شعاراً للمرحلة، وتقف خلفه عشرات المؤسسات التي تضخ المليارات لبناء هذه البطولات وتلك الانتصارات، والتجارة بها مرحلياً، ثم تغييرها وإعادة بناء غيرها عندما تقتضي الحاجة، اعتماداً على مقولة “إن الشعوب العربية عاطفية بطبيعتها، لقطة في مسلسل يمكن أن تبكيها، ولقطة أخرى تجعلها تطير فرحاً وطرباً”. وهو ما أكده المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي عندما تحدث عن استراتيجيات التحكم في الشعوب، وتوجيهها بما يراه الحاكم الذي يملك أدوات التأثير وإعادة التشكيل.

 

ساس يسوس سياسة

منذ عدة سنوات جمعني لقاء مع مجموعة من الخبراء والناشطين السياسيين من أقطار عربية مختلفة، وامتد الحوار إلى ذكريات ومواقف تعرضوا لها في حياتهم، من بينها، قال أحدهم: إنه كان يعيش مهاجراً مطارداً في إحدى الدول الأوربية بسبب معارضته لأحد النظم السياسية العربية، وإن هذا النظام في مرحلة من المراحل، وتحت ضغوط إقليمية ودولية تعرض لها، كان مجبراً على إجراء حوارات ومفاوضات لعودة المعارضين في الخارج للعمل من الداخل، وإن ممثلي النظام كانوا متشددين جدا في المفاوضات والشروط والمطالب.

فقال لهم هذا المعارض: نحن لا نريد منكم وزارات سيادية ولا مناصب شرفية، أعطونا الوزارات الخدمية والشؤون البلدية، وسيكون اهتمامنا الأساسي هو تنظيف الشوارع من القمامة والمخلفات، وليس لنا علاقة بالسياسة العليا للدولة.

فرد عليه ممثل النظام: جمع القمامة وتنظيف الشوارع هو أصل السياسة، لأنك تكون قريباً من الناس في كل الشوارع والحارات، وعندما يعرفون أنكم من تنظفون لهم شوارعهم ستكونون أقرب إليهم من النظام ومن الحكومة. فاتركوا هذا الموضوع لنا.

وفي الأخير سقط النظام وبقيت المخلفات، فيا عزيزي (عزيزتي)، مهما فكرتَ أو قررتَ، شرَّقتَ أو غرَّبتَ، لن تذهب بعيداً عن السياسة، ولن تتركك السياسة لتقضي رمضان آمناً مطمئناً ترجو رضا ربك ومغفرته.

لذلك أنصحك ألا تقرأ هذا المقال، وقم إلى صلاتك وعبادتك يرحمك الله، وقل في دعائك: اللهم نجنا من السياسة، ومن ساس ويسوس، وكل سائس ومسوس يعمل على إضلالنا وتضليلنا!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان