زلزال المعارضة التركية.. خسرت ميرال وفاز كليتشدار أوغلو

أربعة أيام من الأداء السياسي السيئ ستكلف المعارضة التركية خسارة كبيرة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة بعد حوالي شهرين فقط.
فلم يكن أكثر مؤيدي الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية يتوقع هذه الهدية المجانية من المعارضة التي أعادت إلى الأذهان “تركيا ما قبل أردوغان”، حيث سادت الاختلافات والانقسامات والتلاسن الحاد والتخوين وإلقاء التهم الجزافية، ثم العودة مرة أخرى كأن شيئا لم يكن.
من المبكر ادعاء أن اصطفاف قادة أحزاب الطاولة السداسية مجددا أمام المقر الرئيسي لحزب السعادة (الإسلامي) لإعلان ترشح زعيم حزب الشعب الجمهوري (الأتاتوركي) كمال كليتشدار أوغلو، قد نجح في ترميم صورة المعارضة، كما أنه من المبكر الجزم بخسارتها، فقرابة شهرين في السياسة التركية مدة طويلة جدا في دولة تتمتع بديناميات سياسية عالية، وتحركات حزبية لا تتوقف تدعمها آلة إعلامية جبارة.
الزلزال السياسي الذي ضرب الطاولة السداسية يوم الخميس 2 مارس وتوابعه الارتدادية، لم يكن مفاجئا للبعض ومنهم كاتب هذه السطور، ففي مقال نشرته بالجزيرة مباشر يوم 18-12-2021 قلت فيه نصًّا:
“فإن المعارضة التركية التي لا تتوقف عن المطالبة بانتخابات مبكرة، لم تستطع حتى الآن حسم خيار المرشح الذي سيمثلها، والذي يبدو أنه قد يفجر أوضاعها الداخلية؛ مما يؤكد أن طريقها إلى انتخابات 2023 ليس مفروشا بالورود”
الانتحار السياسي لميرال أكشنار
تمتلك ميرال أكشنار تاريخا سياسيا طويلا، كتبته في أحزاب يمينية مختلفة بدءا من حزب الطريق القويم مرورا بحزب العدالة والتنمية الحاكم، ثم حزب الحركة القومية، قبل أن ينتهي بها الأمر بالانشقاق عن الحركة القومية وتأسيس الحزب الجيد ورئاسته، كما تولت وزارة الداخلية مدة قصيرة، ونافست في الانتخابات الرئاسية الماضية وحصلت على حوالي 8%، إضافة إلى تمتعها بعضوية البرلمان حتى الآن.
توصف ميرال بأنها امرأة حديدية، وقد أدت دورا مهما في إيصال أكرم إمام أوغلو إلى رئاسة بلدية إسطنبول.
لم تخف رئيسة الحزب الجيد رغبتها في ترشيح إمام أوغلو أو رئيس بلدية أنقرة منصور ياواش لانتخابات الرئاسة، بل لطالما تعاملت مع إمام أوغلو بصفة خاصة، على أنه المرشح الرئاسي المحتمل، وربما الأكيد. ولم تراع كونه في النهاية عضوا في حزب له رئيس يجلس معها على ذات الطاولة، وترتبط معه بتحالف، فقد تجاوزت كليتشدار أوغلو في مواقف عديدة، حيث تلبستها حالة من الثقة وصلت إلى حد الغرور، وتعاملت على أنها رئيسة الوزراء المقبلة (على أساس فوز مرشحها وتغييره النظام الرئاسي إلى آخر برلماني)، وعارضت ترشح كليتشدار أوغلو تلميحا وتصريحا، ولم تتردد في إرجاع أسباب الرفض صراحة إلى كون الرجل علويا، مما يقلل من فرص فوزه حسب رأيها.
لكن في موازاة ذلك أدارات أكشنار معركتها ضد ترشح رئيس حزب الشعب الجمهوري داخل التحالف إدارة سيئة، وكان الرجل أكثر منها دهاء وخبرة، إذ نجح الأخير في انتزاع موافقة قادة أحزاب الطاولة، كما تمكن من تقليم أظافر أكرم إمام أوغلو، داخل الحزب، وانتزع تفويضا من نواب الحزب في اختيار المرشح الرئاسي.
لذا لم تكن غريبة تلك العصبية التي بدت عليها ميرال في المؤتمر الصحفي الذي عقدته يوم الثاني من مارس، فقد كانت انعكاسا لخيبة أملها وشعورها بالهزيمة بعد تيقنها من موافقة قادة الأحزاب على ترشيح كليتشدار أوغلو، فخلت عباراتها من اللياقة والدبلوماسية وبدت وكأنها تحرق كل سفن العودة.
فقد اتهمت الطاولة بـ”فقدان إرادة الأمة”، وقالت إن الطموحات الشخصية كانت مقدمة على المصالح العليا لتركيا، ووصفت مائدة الأحزاب بـ”مائدة القمار”، مؤكدة أنها لن تكون مثل كاتب التوثيق العدلي (الشهر العقاري) بحيث تنحصر مهمتها في “البصم” على القرارات المعدة سلفا وتمريرها.
لكنها ما لبثت أن قررت العودة إلى الطاولة السداسية قبل ساعات من انعقاد مؤتمر إعلان اسم المرشح التوافقي، عقب لقائها برئيسي بلدية إسطنبول وأنقرة، ثم كليتشدار أوغلو. وسرب أنصارها معلومات مفادها أن موافقتها جاءت مشروطة بتعيين أكرم إمام أوغلو، ومنصور ياواش نائبين للرئيس حال فوزه بصلاحيات تنفيذية كاملة، لكن البيان الذي أصدره رؤساء الأحزاب عقب اجتماعهم عصف بآمال ميرال أكشنار، وتسريبات أنصارها؛ إذ نصت المادة الثانية عشرة على تعيين رئيسي بلدتي إسطنبول وأنقرة (دون ذكر اسميهما) نائبين للرئيس بـ”مهام محددة” في الوقت الذي يراه الرئيس مناسبا!! لذا ظهرت رئيسة الحزب الجيد في مؤتمر قادة الأحزاب الستة مكفهرة الوجه عابسة، غير راضية عن المشهد برمته، ولم تذهب إلى مائدة العشاء التي جمعت قادة الأحزاب.
هذا الأداء السيئ لن يمر مرور الكرام، فآثاره ستنعكس على تماسك الحزب والتفاف قادته حول ميرال خلال الفترة المقبلة، كما قد يؤدي إلى عزوف كتلة من الناخبين عن التصويت للحزب، وربما لجؤوا إلى التصويت لحزب الحركة القومية الشريك الأساسي في التحالف الحاكم مما سيعزز من قوة أردوغان تحت قبة البرلمان.
الهزات الارتدادية لزلزال الأيام الأربعة لن تتوقف عند ذلك، بل قد تطيح بميرال أكشنار نفسها من رئاسة الحزب، وتحملها على الاستقالة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، أو قد تدفعها إلى انعطافة شديدة صوب تحالف الجمهور الذي يضم أحزاب العدالة والتنمية والحركة القومية إضافة إلى حزب الاتحاد الكبير، وهو سيناريو بعيد جدا لكنه وارد في ظل الأزمة التي تورطت فيها بسوء أدائها.
مستقبل تركيا والتوافق المستحيل
الزلزال السياسي لم يصب ميرال أكشنار وحدها، بل امتد إلى بقية الطاولة السداسية التي أفصحت خريطة الطريق التي أعلنتها وتألفت من اثنتي عشرة مادة، عن انفصال تام عن الشارع التركي، عبر تبني أجندة نخبوية لا تهم المواطن المعني الآن بمعالجة آثار الزلزال وتضميد جراح سكان عشر ولايات يصل تعدادهم إلى قرابة ثلاثة عشر مليون مواطن، إضافة إلى همومه الاقتصادية.
فوفق الخريطة التي تم إعلانها عقب اجتماع السادس من مارس، فإنه ستتم إدارة الدولة التركية بـ”التوافق”، وسيعد قادة الأحزاب المنضوية في التحالف نوابا لرئيس الجمهورية.
وسيحصل كل حزب على وزارة على الأقل ثم توزع بقية الوزارات حسب نسبة المقاعد التي حصل عليها كل حزب. وسيستخدم رئيس الجمهورية صلاحياته على أسس “التوافق والتعددية”، كما يعد “التوافق” شرطا لاتخاذ قرارات إعادة الانتخابات، وإعلان حالة الطوارئ، وسياسات الأمن القومي، والقرارات الرئاسية، والتعيينات في المناصب العليا،. ورغم أن الخريطة تنص على أن صلاحية تعيين الوزراء وعزلهم ستكون بيد رئيس الجمهورية، فإنها علقتها بـ” التوافق بين رؤساء الأحزاب في التحالف”.
وهذه وصفة مثالية ليس لإدارة الدولة، بل لتعطيلها وشل حركتها، مع كل اختلاف بين رؤساء التحالف، الأمر الذي سيعيد إلى أذهان الشعب التركي الذكريات السيئة التي خلفتها حقب الحكومات الائتلافية التي قادت في نهاية المطاف إلى انهيار الدولة بأكملها.
الخريطة -التي ظل رؤساء الأحزاب يجتمعون لأجلها مدة عام- لم تقدم جديدا للناخب بل تقول له بكل وضوح: سنعود بك إلى عهد الائتلافات الحاكمة التي لم تكن تستمر طويلا قبل أن تنهار، بعد أن تطبع آثارها السلبية على حياة المواطن ورفاهيته، خاصة أن النظام الرئاسي أثبت قوته ومنح أردوغان القدرة على إدارة عدة أزمات وملفات إدارة جيدة مثل أزمة وباء كورونا، ومواجهة كارثة الزلزال، والتعامل مع التهديدات الإرهابية في شمال سوريا، وإبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، ومساعدة الجيش الأذربيجاني على حربه في قره باغ … إلخ.
كما أعاد أردوغان تنظيم الدولة ومؤسساتها خاصة الأمنية والعسكرية ليقضي على الثغرات التي كانت تنفذ منها الانقلابات العسكرية، التي كانت تستغل حالات الفوضى السياسية، لتنتزع إدارة البلاد.
من يعاني من النظام الرئاسي في حقيقة الأمر ليس المواطن البسيط بل النخب الحزبية والسياسية التي تريد العودة إلى مشهد الحكم والسيطرة ولو من خلال النظام البرلماني الذي أثبت فشله في تأسيس نظام سياسي مستقر، ليس في تركيا وحدها بل كما نتابع في العراق ولبنان وغيرهما.
وبينما انطلقت ميرال أكشنار في طريق اللاعودة، بدا أن الفائز حتى الآن هو أردوغان، فقد تحقق له ما ظل يلح إليه مدة طويلة، مطالبا كليتشدار أوغلو بالترشح معه باعتباره زعيم حزب المعارضة الرئيسي، وعدم الاختباء خلف مرشحين آخرين. كما فاز زعيم حزب الشعب الجمهوري؛ إذ نجح في حسم المعركة داخل حزبه، وداخل تحالف الأمة، لكن الوقت لا يزال مبكرا للجزم بفوز هذا المرشح أو ذاك.