سد النهضة.. الملء الرابع والفرص البديلة

توليد الكهرباء من سد النهضة

 

تبلغ مساحة حوض النيل 2.9 مليون كيلومتر مربع، أي 10% من مساحة أفريقيا، ويُعَد نهر النيل أطول أنهار العالم إذ يبلغ طوله نحو 6670 كيلومترا، ذلك إذا بدأنا من منابع نهر كاجيرا. ويشمل حوض النيل الدول التي يخترقها النهر وتقع في حوضه ولها مصلحة في مياهه وتستفيد منها بأي صورة من الصور، وهي مصر والسودان وجنوب السودان وإثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندي وبوروندي بالإضافة إلى الكونغو الديمقراطية.

ويبلغ الحجم المتوسط السنوي للأمطار على حوض النيل نحو 900 مليار متر مكعب سنويا، يُمثل السريان السطحي منه 137 مليار متر مكعب، بينما إيراد نهر النيل لا يتجاوز 84 مليار متر مكعب، يأتي 72 مليارا (أي 87% من مياه النيل) من النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا، بينما يأتي 13% من منطقة البحيرات العظمى أي نحو 12 مليار متر مكعب.

وتبرز المشكلة المائية في دول حوض النيل من أن هذه الدول تعاني مخاطر مستقبلية نتيجة نقص المياه خصوصا دولتي المصب، مصر والسودان، اللتين تعتمدان على مياه النيل اعتمادا شبه كلي. فمصر هي الدولة الأكبر سكانا والأكثر اعتمادا على مياه النيل، والأمطار بها شبه معدومة، والمياه الجوفية غير متجددة، ومياه النيل تمثل نحو 97% من موارد مصر المائية، وتبلغ حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب، والأرض المزروعة 3.6 ملايين فدان، وهذا القدر من المياه لا يكفي لاحتياجات السكان، ولكي تحافظ مصر على نصيب الفرد من المياه فإنها بحاجة إلى نحو 77 مليار متر مكعب، وهو ما يعني وجود عجز 22 مليار متر مكعب.

وفي السودان، تختلف التقديرات بشأن المساحة المزروعة من 1.1 إلى 1.3 مليون هكتار، في حين تتراوح تقديرات المياه المستخدمة بين 12 و17 مليون هكتار. وتدعو الخطة الوطنية السودانية إلى استصلاح ما يقرب من 2.4 مليون هكتار جديدة من الأرض الزراعية، وهي تتطلب 15 مليار متر مكعب إضافية من المياه.

ولكن وسط وجنوبي السودان لا يحتاجان كثيرا إلى المياه من نهر النيل، فمعدل مياه الأمطار يصل إلى 1500 ملم على الأغلب في العام. كما أن السودان حاليا يستغل فقط 13.5 مليار متر مكعب من حصته في مياه النيل البالغة 18.5 مليارا، إلا أن ما يزيد من وطأة الأزمة في شمالي السودان، بعد انفصال الجنوب في العام 2011، أن الأخير يسيطر على قسم مهم من مياه النيل ومصادره الأساسية، رغم أنه يشهد انهمار الأمطار طوال شهور الصيف.

وفي إثيوبيا، التي توصف بأنها نافورة أفريقيا حيث ينبع من مرتفعاتها 11 نهرا تتدفق عبر حدودها إلى الصومال والسودان وتصب هذه الأنهار 100 مليار متر مكعب من المياه إلى جيران إثيوبيا، والنيل الأزرق أكثر هذه الأنهار تدفقا، لكن تتميز أنهار إثيوبيا التي تجري صوب الغرب بانحدارها الشاهق، فالنيل الأزرق ينحدر 1786 مترا عن مجراه الذي يبلغ 900 كيلومتر، وهذا الانحدار الشاهق لتلك الأنهار يجعل من إثيوبيا بلدا ضعيفا جغرافيا في التحكم في جريان النهر.

نهر النيل بين الاتفاقيات التاريخية والمؤسسات الإطارية

سعت دول الحوض إلى وضع أطر قانونية تحكم علاقاتها وتنظم حصصها من المياه، بداية من توقيع بروتوكول روما 1891 وصولا إلى اتفاق المبادئ الثلاثي بين مصر وإثيوبيا والسودان 2015، مرورا باتفاقية أديس أبابا (15 مايو/أيار 1902) واتفاقية لندن (13 ديسمبر/كانون الأول 1906) واتفاقية روما 1925، وإطار التعاون الثنائي (1 يوليو/تموز 1993) بين مصر وإثيوبيا، وإعلان مالابو (28 يونيو/حزيران 2014) بين مصر وإثيوبيا أيضا، وكذلك اتفاقية 1929 بين مصر ودول الهضبة الاستوائية، واتفاقية 1959 بين مصر والسودان.

ونظرا للتحولات التي شهدتها دول حوض النيل في مرحلة ما بعد الاستقلال أو الانفصال، فقد اتجهت إلى توفير آليات جديدة للتعاون الإقليمي في ما بينها، ووضع أطر مؤسسية بجانب الأطر القانونية التي وفرتها الاتفاقيات الثنائية والجماعية المُوقعة بينها، ومن ذلك هيئة مياه النيل، ومشروع الهيدروميت، وتجمّع الأندوجو، وتجمّع التيكونيل، ومبادرة حوض النيل (1999)، والمكتب الفني الإقليمي للنيل الشرقي (الإنترو) الذي تم تأسيسه في مارس/آذار 2001 بين مصر والسودان وإثيوبيا.

سد النهضة والملء الرابع

خلال السنوات الأربع الماضية، قامت إثيوبيا بمراحل عدة لملء سد النهضة الذي بدأت بتنفيذه عام 2011، الملء الأول كان في يوليو 2020، وبلغ حجم التخزين فيه نحو 5 مليارات متر مكعب، وكان الملء الثاني في يوليو 2021، وبلغ حجم التخزين نحو 13.5 مليار متر مكعب (وفق التصريحات الرسمية الإثيوبية)، ثم كان الملء الثالث في يوليو 2022، وذكر بعده رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد أن “التعبئة تمت بطريقة سلسة دون أي ضرر في حصة مياه دول المصب”، مضيفا أنه “تم احتجاز 22 مليار متر مكعب، وتشغيل توربين واحد في السد لتوليد الطاقة الكهربائية، دون إلحاق ضرر بدولتي المصب ولا بحصتيهما المائية”.

ثم بدأ الملء الرابع للسد في نهاية فبراير/شباط 2023، الذي يستهدف الوصول بحجم المياه التي سيتم تخزينها إلى 40 مليار متر مكعب، ومع الاستعدادات الإثيوبية والخطوات العملية التي يتم تطبيقها وفق خطط محددة ومعلنة، وفي وقت تضيق فيه الخيارات والبدائل أمام صانع القرار المصري، تبرز مجموعة من المسارات الأساسية.

 

سد النهضة واستحالة العمل العسكري

يقوم هذا المسار على لجوء مصر إلى عملية عسكرية تستهدف الدول التي تهدد مصالحها المائية، أو تُوجَّه إلى السدود التي أنشأتها هذه الدول، في ظل عقد المقارنات بين القدرات العسكرية لدول حوض النيل، والتفوق المصري في هذا المجال، كما أن التوترات الداخلية التي تعاني منها دول حوض النيل، يمكن أن تُشكّل عاملا يدفع النظام المصري إلى القيام بعملية عسكرية ولو محدودة لإثبات قدراته الردعية حيال التهديدات، وخاصة تجاه إثيوبيا.

إلا أن هذا الاحتمال غير وارد على الإطلاق، في ظل طبيعة توجهات السياسة الخارجية المصرية في المرحلة الراهنة، فمصر تعاني حالة عدم استقرار اقتصادي كبيرة، كما أن خيار الحرب لا يرتبط فقط بتوازنات القوى العسكرية، ولكنه يرتبط بأنماط التفاعلات الإقليمية والدولية والتحالفات القائمة، وموقع النظام المصري من هذه التحالفات، خاصة في وجود ما يمكن وصفه بالتحالف الاستراتيجي بين كل من إثيوبيا والولايات المتحدة وإسرائيل، والأخيرتان حليفان استراتيجيان للنظام في مصر، ولهما من أوراق الضغط الكثير لضبط حركته الخارجية.

المفاوضات المباشرة وحدود الفاعلية

أعلنت مصر حرصها على الدخول في مفاوضات مباشرة مع مسؤولي دول حوض النيل، وأكدت قدرتها على تسوية الأزمة من خلال هذه المفاوضات، وتعددت جولات التفاوض، لكن المفاوضات محكومة باعتبارات عدة، من بينها أن وضع مصر التفاوضي أضعف مقارنة بهذه الأطراف، وهذه التنازلات يمكن أن تشمل إقرار حق هذه الدول في بناء سدود داخلية، على أن تشارك مصر فنيا في بنائها، وتقديم دعم مادي إسهاما في ذلك، وأن تعلن مصر تأكيدها حقوق هذه الدول في إعادة النظر في الاتفاقيات القادمة، ولكن مع تأكيد شرط الاستخدام العادل للمياه، ودون تدخّل أطراف من خارج دول الحوض.

كما يجب عند الدخول في مفاوضات جادة وفعلية وبناءة، دراسة خريطة التفاعلات الخارجية لدول حوض النيل، وعلاقاتها السياسية والاقتصادية المحورية، وطبيعة الضغوط التي تتعرض لها هذه الدول من جانب أطراف خارجية إقليمية ودولية، تسعي وراء مصالح وأهداف خاصة.

الدبلوماسية الشعبية وشعرة معاوية

وتقوم على لجوء مصر إلى استخدام عدد من مؤسساتها الدينية والثقافية ذات الطابع الخاص، التي يمكن أن يكون لها دور في تخفيف حدة الأزمة، وفى مقدمة هذه المؤسسات يأتي الأزهر الشريف بما له من تأثير ديني كبير في القارة الأفريقية، وكذلك الكنيسة الأرثوذكسية، في ظل الارتباط التاريخي والديني بين الكنيسة المصرية والكنيسة الإثيوبية، إلا أن دور هذه المؤسسات لن يكون كبيرا ومؤثرا، إلا في إطار الحفاظ على العلاقات الودية بين الشعوب، دون تأثير حقيقي على مسار قضية المياه.

أولويات المرحلة

في إطار هذه المسارات، يمكن القول إن المخاطر التي تتعلق بمصير حصة مصر من المياه لم ولن تنتهي عن هذا الحد، حتى لو تم إيجاد حلول وسطية مع دول حوض النيل، للحفاظ على حصة مصر أو الجانب الأكبر منها، خاصة أن المشكلة لا تقتصر عند هذه المنطقة، ولكنها تتعلق بقضية عالمية قد تتسبب في حروب مستقبلية أكثر ضراوة من حروب النفط أو حروب مد النفوذ أو حتى العمليات العسكرية التي تُشن لتجربة أنواع جديدة من السلاح.

كما أن دول المنبع بمفهوم المصالح الاستراتيجية، فإن مياه نهر النيل تشكل لهذه الدول كنزا لا يقل عن النفط، وما ينقصها فقط هو الخبرات والتكنولوجيا والمال، وإذا كانت هناك دول ستوفر لها هذه العناصر، على رأسها إسرائيل التي تقيم مشروعات زراعية عملاقة مع إثيوبيا، والولايات المتحدة الأمريكية ودول أخرى في أوربا وآسيا، فإن أحدا لن يمنعها من إحداث هذه التنمية، وهو الأمر الذي سيؤثر حتما على حصة مصر من مياه النيل.

وهو ما يفرض على صانع القرار المصري التعامل مع هذا الملف بوصفه أمنا قوميا استراتيجيا، لأن مصر قد تصبح عرضة للمساومة من دول أخرى تسعى للحصول على حصة من مياه النيل بطرق أخرى، بحيث تصبح المياه سلعة مثل النفط، تشتريها الدول التي تعاني نقص الموارد المائية، كما أن هناك ضرورة لإعادة تقييم الأوضاع الداخلية في مصر من ناحية كمية المياه التي تُهدَر عند مصب النيل في البحر المتوسط، ووجود العديد من المشروعات التي تستهلك كميات كبيرة من مياه النيل، مع التفكير الاستراتيجي في بدائل للمياه، لأن التحدي المستقبلي كبير، ليس فقط على الأمن المائي أو الأمن الغذائي، ولكن أيضا على الأمن الإنساني والاجتماعي، وكلها مهددات للأمن القومي.

المصدر : الجزيرة مباشر