رمضان في زمن التيه.. كما جاء ذهب!

 

يجئ رمضان ويذهب، وكما بدأ ينتهي، لا جديد ولا اختلاف، فلا أثر للصيام يُدرك في النفوس وفي الأبدان وفي المجتمعات. هذا هو الحال مع شهر رمضان، في زمن التيه الحاضر، الذي تعيشه الأمة، وتعاني فيه من فقدان هويتها، ومحاولات التكالب عليها بلا كلل ولا ملل لإذابتها في بوتقة حضارات أخرى، فحال المسلمين الآن، وحالهم مع الصيام ورمضان يُعد مرآة عاكسة لواقع التيه الذي تعيشه الأمة على مدار عقود طويلة مضت.

يوم عاش المسلمون المعاني

يوم كان المسلمون يستوعبون حكمة رمضان ومعاني الصيام، لمسوا بأيديهم معاني الحرية والانفكاك من رق سلطان البطون وشهوات النفوس، وتحرروا من قيود الخوف جميعها، وملكوا حريتهم، وأقاموا الحق وعملوا به، ووقفوا في وجه طغاة العالم، وحققوا معنى الاستخلاف في الأرض كما أراد الله، وتلك من معاني قوله سبحانه “الصوم لي وأنا أجزي به” كما جاء في الحديث القدسي.

ويوم كان المسلمون يعيشون معاني الصيام تربت نفوسهم على توحيد الخالق سبحانه وإفراده بالعبادة، وتشربت نفوسهم محبة العدل وطلب الحق، وبغض الظلم، والتصدي للطغاة والظالمين، فعاشوا أعزة كرامًا، وأحرارًا ممكنين.

ويوم تخلف المسلمون عن إدراك معاني الصيام، عانت الأمة من تيه أصاب الأفكار والتصورات والمشاعر، وترجمه سلوك الناس وأخلاقهم، وواقع المجتمعات وأوضاعها. تيه وُجدَ أثرُه في التخلف عن فهم السنن الكونية، وفي الحيرة المتفشية والضياع المستشري، وغياب الرشاد بين الناس عامة، والنخب خاصة، وقد طال زمن تيه الأمة الإسلامية عقودًا عديدة وسنين طويلة.

وقد تجلت مظاهر هذا التيه واضحة فيما تعانيه الأمة من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية، وحروب وصراعات، وفقر ومرض وجهل، وهيمنة للقوى الكبرى على بلاد المسلمين.

يوم غابت حكمة الصيام

لقد غاب عن المسلمين اليوم أو قل غُيب عنهم إدراك معاني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

فوسط ضجيج هذا العالم الحاضر بمادياته وأدواته الآخذة بألباب الناس، تاه المسلمون عن إدراك معاني رمضان والصيام، فالأصل في رمضان أنه شهر للحرية، فهو شهر للتحرر من رق حاجات البدن وشهوات النفس، ولكن واقع الناس الآن أنهم غارقون في رق حاجات أجسادهم وشهوات نفوسهم، في انحراف صارخ عن مقاصد الصيام وحكمته.

ورمضان والصيام مدرسة جامعة لكل عوامل الإحياء، التي تنتشل الأمة من التيه الذي تعيشه، فمن مدرسة الصيام سيتأهل المسلمون لإحياء قيمهم، وبعث حضارتهم الإسلامية من سباتها، لإنقاذ العالم من براثن الحضارة المادية المهيمنة.

ولكن بدلًا من أن يصبح شهر الصيام شهرًا لانطلاقة الأمة نحو نهضتها، إذ بالأمة كما هي تراوح مكانها مكبلة، ولا تستطيع أن تأخذ طريقها نحو الاستنهاض.

مجرد طقس وعادة

على مدار تاريخ الأمة الإسلامية، كان رمضان شهر العزة والتمكين للإسلام والمسلمين، وشاهدًا على أعظم الأحداث والإنجازات التي خلدها التاريخ الإسلامي، وما كان ذلك ليتحقق إلا بإدراك المسلمين للمعاني الحقيقية والقيم السامية لرمضان والصيام.

ولكن يا للأسف، أصبح رمضان في زماننا هذا مجرد طقس وعادة، وشهرًا للإسراف والإهدار، فمعاني الصوم تاهت، وسُطحت حكمة أعظم عبادة كتبت على المسلمين، واختزلت في الأحشاء ومعنى الجوع الذي يستوي فيه الغني والفقير.

رمضان في زماننا أصبح حلبة للتنافس في الموائد، والتي منها ما يخرج بما يحدث فيها عن آداب الإسلام وتعاليمه، فهذه أكبر مائدة إفطار في مصر، وتلك أطول مائدة إفطار في الجزائر، وهذا أكبر إفطار رمضاني في العالم، وكأن تلك الموائد لا تعرف إلا رمضان، وكأن الأمة تعيش في سلطان معدتها بين جوع بالنهار وتخمة بالليل، وتهافت على ما لذ وطاب من أصناف الشراب والطعام.

في زمن التيه

رمضان شهر الصيام، يترك فيه المسلم المباحات كما يترك المحرمات، ويحرر نفسه من كثير من الملذات، إلا أنه بات في بلاد المسلمين، وخاصة في المنطقة العربية شهرًا للإسراف والإهدار، ففي بلد كمصر يعاني أزمات اقتصادية ويستورد نحو 60% من حاجاته الغذائية، تشير الأرقام الرسمية لعام 2022 إلى إنفاق ما بين 75 إلى 80 مليار جنيه على الطعام في شهر رمضان، بزيادة 25 مليار جنيه عن باقي شهور السنة! يحدث هذا في بلد مأزوم اقتصاديًا، فماذا يحدث في بلاد المسلمين الأخرى الأكثر ثراء؟!

وفي زمن التيه الذي نعيشه نحن المسلمين أصبح رمضان شهرًا لكل الملهيات والمغريات، وأتساءل دومًا كما يتساءل غيري كثيرون في زماننا هذا، ما علاقة رمضان بكل ما يجري فيه من أشياء لا تكون بهذا القدر إلا في رمضان؟

فمن الأطعمة والمشروبات، والحفلات والسهرات، والدورات الرياضية، إلى مئات المسلسلات والبرامج التليفزيونية التي تتكلف مئات الملايين، وغير ذلك الكثير، يقف المرء متسائلًا: لماذا يحدث هذا ويكرس تكريسًا في رمضان؟ أهي الرغبة في أن تظل الأمة أسيرة لحاجات الأبدان وشهوات النفوس، فتظل قابعة في الرق سهلة الانقياد؟

ختامًا

لقد فرض الله علينا الصيام لينقذنا من التيه، ومن عبودية حاجات الجسد وشهوات النفس، ويحررنا من مظاهر الخوف كلها، وعندما تربى المسلمون من قبل في مدرسة الصيام، وعرفوا صيامهم حق معرفته، وأدركوا أنهم خير أمة أخرجت للناس، صاروا سادة العالم، وملكوا هذه الدنيا قرونًا.

كما جاء رمضان ذهب، ونحن باقون على ما نحن فيه منذ سنين طويلة، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وزمن التيه الذي يحياه المسلمون الآن قد يطول وقت الخروج منه، طالما لم ندرك معاني الصيام ورمضان كما يجب، مثلما أدركها الأولون، وعندما نعرف الصيام حق معرفته فهذا باب الخروج من التيه الذي نعيشه، ونصبح حينئذٍ إلى شرع ربنا وهديه أقرب، وتتحقق لنا أسباب السعادة، وتنهض حضارتنا وتزدهر دولتنا.

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان