الدين والهوية في قلب الانتخابات التركية

زعيم حزب الشعب الجمهوري ، كمال كليتشدارأوغلو (وسط) المرشح الرئاسي لتحالف المعارضة الرئيسية، ونائب المرشح الرئاسي زعيم حزب ديفا علي باباجان (إلى اليسار) ورئيس بلدية أنقرة نائب الرئيس المرشح منصور يافاس (يمين)

تنص المادة الثانية من الدستور التركي صراحة على “علمانية الدولة” وتعد هذه المادة ضمن ثلاث مواد يحظر تغييرها أو حذفها وفق ما تؤكد عليه المادة الرابعة من الدستور.

إشكالية “الدين والعلمانية” ظلت واحدة من أهم الجدليات داخل المجتمع التركي، ليس مع تأسيس الجمهورية كما يعتقد كثيرون، بل بدأت قبل ذلك في الدولة العثمانية مع بدء عمليات التحديث، إذ طرحت على هامش التحديث هذه الأسئلة التي بدأت خافتة ثم سرعان ما تحولت إلى محددات لاتجاهات واضحة داخل المجتمع.

وفي سبيل الحفاظ على علمانية الدولة اتخذت السلطات المتعاقبة من التدابير ما يضمن بقاء وديمومة هذه العلمانية وعدم المساس بها. بدءا من النص عليها في الدستور وصولا إلى تنفيذ انقلابات عسكرية وما بينهما من إجراءات مثل إغلاق أحزاب وجمعيات واعتقال أشخاص.

هذه الإجراءات السلطوية الحدية أدت بتركيا الحديثة -كما يقول المفكر الأمريكي صموئيل هنتغنتون- إلى أن تكون “دولة ممزقة بين هويتها الأصلية وهوية الواقع الجديد”، وأضاف هنتغنتون أن “مثل هذه المحاولة سيُكتب لها الفشل في أي مكان في العالم، وليس في تركيا فقط”.

ومع استلام حزب العدالة والتنمية دفة الحكم عام 2002 كان من الطبيعي أن تثور المسألة مرة أخرى خاصة مع قرب العهد بانقلاب 28 فبراير/ شباط 1997 الذي بدا كأنه إجراء احترازي لحماية العلمانية عقب استلام رئيس حزب الرفاه برئاسة نجم الدين أربكان رئاسة الوزراء في حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيلر.

فقرارات مجلس الأمن القومي التي أجبر أربكان على التوقيع عليها كانت تهدف إلى الحفاظ على علمانية الدولة وأبرزها:

  • حظر صارم للحجاب في الجامعات.
  • إغلاق مدارس تحفيظ القرآن.
  • إلغاء مدارس الطرق الصوفية.
  • فصل الضباط ذوي الاتجاهات الدينية.

لكن جرت في النهر مياه كثيرة كما يقال، ونجح حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان في اختراق المتاريس العلمانية التي أقامتها الأوليغارشية العسكرية، وعمل على القضاء على التغول العلماني على الحريات خاصة فيما يتعلق بمسألة الحجاب وحق المحجبات في التعلم والالتحاق بالوظائف الحكومية المختلفة، كما فسح المجال أمام ممارسة المسلمين لشعائرهم بكل حرية من خلال التوسع في بناء المساجد وتدعيم دور رئاسة الشؤون الدينية في أداء مهمتها في الدعوة والتوجيه، والتصدي لأي استهداف للمقدسات الإسلامية والمحجبات.

هذه التحولات الهائلة التي شهدتها تركيا بشأن تعزيز حضور الدين في المجتمع دون المساس بعلمانية الدولة ومؤسساتها، ألقت بظلالها على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع إجراؤها في 14 مايو/ أيار المقبل، وحملت الأحزاب العلمانية الكمالية إلى تغيير خطابها وإجراءاتها على نحو غير مسبوق.

الحضور الديني في التحالفات الانتخابية

لم يكن مستغربا أن يسعى تحالف الجمهور بقيادة حزب العدالة والتنمية إلى توسيع نطاق التحالف بضم أحزاب تصنف بأنها “إسلامية” رغم أن حزب العدالة والتنمية نفسه معروف بأنه حزب محافظ، وقد لا يحتاج إلى تدعيم هذا التصنيف، لكن بالرغم من ذلك حرص بشدة على ضم حزبي الرفاه من جديد، وهدا بار (الدعوة الحرة) إلى التحالف على الرغم من تواضع نسبة التصويت المتوقعة لكليهما.

لكن الصخب الأكبر كان في تحالف الأمة الذي ضم فرقاء أيديولوجيين لم يكن من المنتظر أن يضمهما تحالف انتخابي يوما ما.

فرغم أن الحياة السياسية التركية شهدت ائتلافات حاكمة من هذا النوع، قبل فترة العدالة والتنمية، فإنها لم تدم طويلا ولم تصل إلى حد التحالف.

وتحالف حزبي الشعب الجمهوري العلماني الأتاتوركي، والسعادة “الإسلامي” يعد مثالا على إعادة هذا التموضع، في مشهد حضر فيه الدين.

ففي يوم 6 مارس/ آذار الماضي، اصطفّ أنصار حزب الشعب الجمهوري ضمن آخرين، أمام حزب السعادة، استعدادا لإعلان ترشح كليتشدار أوغلو الرسمي، حيث لفتوا الأنظار بهتافاتهم المؤكدة على علمانية الدولة “تركيا علمانية وستبقى علمانية” في رسالة لا ينقصها الوضوح بأن ذلك التحالف -ربما المؤقت- لن يغير من الاقتناعات والتوجهات، وفي المقابل طالعنا اعتراضات ليست بالقليلة من قبل المحافظين في حركة المللي غوروش على سياسات حزب السعادة، كان البعد الديني الأيديولوجي واضحا فيها.

 حملات وبرامج انتخابية تستحضر الدين

لم يكن مستغربا على حملة انتخابية يقودها أردوغان استدعاء الدين إلى قلب الحملات والبرامج الانتخابية، فالرجل كما أسلفنا عمل على مدار عشرين عاما على تعزيز هذا الحضور دون المساس بعلمانية الدولة ومؤسساتها.

ففي بيانه الانتخابي أشار إلى دور القيم في ضمان وجود واستمرارية المجتمع التركي مؤكدا أنها “توفر مصالحة اجتماعية وحياة سلمية ومستقبلًا مليئًا بالثقة” ومعتبرًا أن الأسرة هي إحدى المؤسسات الرئيسية التي حافظت على وجود الأمة التركية في جميع الأوقات، وهي حجر الزاوية لديمومتها.

وفي سبيل الحفاظ على مؤسسة “الأسرة” شدد أردوغان في أكثر من تجمع انتخابي على عزمه -حال انتخابه- على اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة المثلية الجنسية وتفريعاتها والجمعيات الداعمة لها، وعدم السماح بتمددها في المجتمع. ويعد هذا الوعد الانتخابي واحدا من أهم مطالب حزبي الرفاه من جديد وهدا بار لإتمام التحالف.

كما حرص أردوغان على تعزيز دور المساجد في المجتمع خلال حملته الانتخابية حيث افتتح مسجد “صلاح الدين الأيوبي” في ولاية ديار بكر ذات الأغلبية الكردية، إضافة إلى الاحتفال بانتهاء ترميم مسجد السلطان أحمد الشهير في إسطنبول وإلقاء كلمة من داخله لم تغب عنها السياسة.

وبالرغم من ذلك فإن هذه المشاهد لم تكن مستغربة، بقدر استغراب “تديين” الحملة الانتخابية لتحالف الأمة وفي القلب منه حزب الشعب الجمهوري.

فالحزب وقف موقفا تاريخيا مناهضا للحجاب ومعاديا لدمج المحجبات في مؤسسات الدولة الرسمية، وحاول منع التعديل الدستوري عام 2008 الذي ينص على حرية ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، عبر التقدم بالتماس إلى المحكمة الدستورية العليا موقع من 112 نائبا بالاشتراك مع حزب اليسار الديمقراطي، والمفارقة التي يجب ذكرها هنا أن حزب اليسار الذي أسسه رئيس الوزراء الراحل بولنت أجاويد، هو الذي تزعم طرد النائبة المحجبة مروة قاوقجي من البرلمان عام 1999، ثم إذا به يعود الآن ليتحالف مع حزب العدالة والتنمية ويدعم أردوغان!

حزب الشعب الجمهوري فاجأ الجميع بترشيح محجبات على قوائمه، وعمد كليتشدار أوغلو إلى إظهار صورته على ملصقات الدعاية الانتخابية بجوار امرأة محجبة! وهو يكرر منذ العام الماضي الاعتذار عن سياسات الحزب السابقة في حق المحجبات مؤكدا أنها لم تكن صائبة. كما يتصدى كليتشدار أوغلو، بين الفينة والأخرى للتصريحات المعادية التي تخرج من رموز محسوبة على حزبه تستهدف الدين ومؤسساته الرسمية والحجاب.

ميرال أكشنار لم تكن غائبة عن المشهد، فقد أكدت هي الأخرى أنها تؤدي الصلاة منذ أن كانت في السابعة من عمرها، وأنها حجت بيت الله الحرام، كما حرصت على تغطية رأسها خلال موائد الإفطار في شهر رمضان.

لكن حتى الآن لم تتمكن هذه الإجراءات من إحداث اختراق واضح في صفوف المحافظين الأتراك؛ إذ لا يزال كثيرون على اقتناع بأن هذه التصرفات لا تعبر عن موقف هؤلاء الحقيقي اتجاه الدين بقدر ما هي ضرورة انتخابية سرعان ما ستزول في اليوم التالي للانتخابات.

كليتشدار أوغلو واستدعاء الهوية “العلوية”

يحسب أغلب العلويين في تركيا على اليسار العلماني، وتذهب معظم أصواتهم إلى حزب الشعب الجمهوري رغم ما تعرضوا له من مذابح خلال فترة حكم الحزب، كما لعبوا دورا بارزا في أحداث غيزي بارك 2013 التي كانت تهدف إلى الإطاحة بأردوغان وحكومته، وهم يعارضون سياسات الحكومة الداعمة للثورة السورية ضد بشار الأسد.

في هذا السياق التاريخي والمجتمعي، فوجئ الرأي العام التركي بإعلان المرشح الرئاسي كمال كليتشدار أوغلو -ربما للمرة الأولى- هويته الطائفية، وانتماءه إلى العلويين، إذ قال في مقطع مصور:

“أنا علوي. هل أنتم مستعدون لتدمير هذا النظام الذي يقول لا يوجد علويون؟”، مشددا على أنه “مسلم مخلص نشأ على عقيدة حق محمد وعلي”.

ودعا إلى “إخراج البلاد من الجدل الطائفي الضار”، داعيا الرافضين له لعلويته إلى أن يعترفوا بـ”أن علويا أمينا وأخلاقيا ومحترما يمكن أن يكون رئيسا”.

المقطع المصور تخطى 100 مليون مشاهدة خلال فترة قصيرة وأحدث جدلا واسعا بين مرحب به مؤيد لاعترافه، وبين رافض أشد الرفض له، لعل أبرزهم منافسه الرئاسي أردوغان الذى اعتبر أن هذه اللغة تفتح “نقاشًا عرقيًّا من العدم، ونقاشًا طائفيًّا في بلد لا أحد يسأل فيه أحدًا عن أصله أو طائفته”.

لكن على هامش هذا الاستدعاء “الهوياتي” يجب تسجيل عدة ملاحظات:

1- الملاحظة الأولى عن سبب هذا الاستدعاء المفاجئ والعلني للهوية “المعروفة” و”المسكوت عنها؟ فـ”علوية” كليتشدار أوغلو لم تقف حائلا بينه وبين ممارسة حقوقه السياسية، فقد تولى رئاسة حزب المعارضة الرئيسي منذ عام 2010 وحتى الآن، وترشح لرئاسة بلدية إسطنبول عام 2009 ولم يحالفه الحظ، كما تمتع بعضوية البرلمان، وهو الآن يخوض الانتخابات الرئاسية ويحظى بفرصة الوصول إلى رئاسة الدولة دون أي عوائق دستورية أو قانونية.

2- في تقديري أن إعلان الهوية “العلوية” موجه في الأساس إلى شريك التحالف الحزب الجيد ورئيسته ميرال أكشنار، فهي التي اعترضت صراحة العام الماضي على ترشحه بسبب “علويته”، وحينها سانده أردوغان مطالبا إياه بعدم الخضوع لأي ابتزاز.

3- أبدى قطاع من الكتاب والمثقفين الأتراك تخوفهم من استدعاء الهوية حتى ولو ضمن سياق انتخابي، إذ اعتبروه مقدمة لإحداث صدع في المجتمع، والدفع به صوب استنساخ الحالة السورية، عبر تعظيم “الطائفة” سنية كانت أو علوية على حساب “الدولة” المظلة الجامعة لجميع المذاهب والأعراق.

4- خلال العشرين عاما الماضية عملت حكومات حزب العدالة والتنمية المتعاقبة على تنقية المجال العام من أي رواسب تمييزية طائفية أو عرقية ظلت عالقة من العقود الماضية، ففي في نوفمبر 2011 اعتذر أردوغان نيابة عن الدولة التركية عن مذبحة درسيم التي وقعت فيما بين عامي 1937-1938 وقتل فيها قرابة 14 ألف علوي على خلفية رفض قانون إعادة التوطين، وذلك في فترة حكم حزب الشعب الجمهوري منفردا، كما أجرى الحزب زيارات لقرابة 16 ألف من دور عبادة العلويين المعروفة بـ”بيت الجمع” في 58 مقاطعة بتركيا، وتم منح الوضع القانوني لهذه الدور، والعمل على تلبية احتياجاتها من الكهرباء والماء وغيرهما. كما تقرر إنشاء هيئة مرتبطة بوزارة الثقافة باسم “رئاسة الثقافة العلوية البكداشية وبيوت الجمع”.

وبالجملة فإن جدل “الدين” و”الهوية” اللذين تم استحضارهما إلى قلب الانتخابات “السياسية” لن يتوقف رغم الضوابط العلمانية الصارمة للدولة. لكن سيكون علينا الانتظار قليلا إلى مساء يوم الاقتراع لنعرف تأثير هذا الاستدعاء في الناخب التركي.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان