شيخ الأزهر أحمد الطيب.. الشخص والمكانة
يبدي كثيرون من المراقبين لأداء المؤسسة الدينية الأزهرية التساؤل والتعجب من شخصية شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، إذ كيف لشخص من دولة مبارك، وكان عضوا بلجنة السياسات بالحزب الوطني، وجاء على منصب الإفتاء ثم رئاسة جامعة الأزهر، ثم مشيخة الأزهر، في ظل نظام مبارك، الذي يمر تعيين أي موظف صغير فيه عبر قنوات أمنية وتدقيقات شديدة، بخاصة في المؤسسة الدينية، فما بالنا بهذه المناصب المهمة، فكيف خرج الرجل بمواقفه التي هي مثار إعجاب بعد ثورة يناير، وحتى الآن، ومساحة المؤاخذة والخلاف قليلة عند المنصفين؟!
منصب علمي في الغالب
لا ينكر أي راصد لتاريخ المؤسسة الدينية أن كثيرين ممن ولجوا مناصبها هم أشخاص يهتمون بالجانب العلمي أكثر من اهتمامهم بالجانب السياسي، ورغم تدخلات الأمن في التأخير والتقديم، فإن هناك مساحة كانت تحرص فيها السلطة فيما قبل ثورة يناير، على حفظ مقام المؤسسة الدينية، فقد كانت وجهة نظرها: أن أي مساحة من التقليل أو التقزيم للمؤسسة الدينية الإسلامية، تصب بالمقابل في الطرف الآخر، في المؤسسة الدينية المسيحية، في ظل بلد يجري أحيانا فيه التجاذب والغيرة في هذا الجانب، وكنت تجد ضباطا من أمن الدولة يقومون بتعذيب متدينين، ولكنهم لا يتعاملون بمجاملة مع الملف المسيحي إلا فيما هو لافت للنظر، أو على مستوى كبير، وهو ما لاحظناه من تسريب دولة مبارك لمسرحية في كنيسة بالإسكندرية تنال من شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
حرص دولة مبارك على رمزية المؤسسة
كما كانت أجهزة الدولة تحاول قدر استطاعتها لملمة الأخطاء التي كانت تصدر عن المؤسسة في عهد شيخها الراحل المرحوم الشيخ سيد طنطاوي، فرغم أنه كان دائما ما يقول عن نفسه: أنا موظف حكومي، وكانت هذه العبارة تعبر بجلاء عن حدوده ومقامه، فإن هذه العبارة كانت تسبب حرجا لشكل ومنظر السلطة، التي لديها سلطة دينية أخرى، تتعامل بأريحية، ورمزية كبيرة، وهناك أحداث كثيرة تدخلت فيها مؤسسة الرئاسة لترميم بعض ما لحق بصورة المشيخة في مواقف معينة، سواء في خصوماتها مع بعض المشايخ، أو مع بعض الهيئات الصحفية والسياسية.
الطيب الأزهري الأكاديمي
من رحم هذه السلطة أو النظام، جاء اختيار الشيخ أحمد الطيب، لنفهم السياق الذي جاء فيه، وقد كان توليه لمنصب المفتي ترشيحا من الشيخ طنطاوي، ثم انتقل لمنصب أليق به وبشخصيته وهو رئاسة جامعة الأزهر، والطيب رجل أكاديمي، عاش وقضى حياته العلمية في المحراب العلمي، وتعامل فيه بشكل مؤسسي، بعيدا عن قضايا الشأن العام، التي ليست من مفردات العمل الأكاديمي.
ومثل هذه الشخصيات التي تنشأ في بيئة علمية محافظة وملتزمة ومتزنة كذلك، تكون أميل في حياتها إلى هذا الخط علما وممارسة، وبخاصة عندما يكون منصبها متعلقا بعمل أكاديمي تمرس صاحبه به، بين جامعات مصرية وعربية، فرغم سفر الطيب إلى بلاد عربية تعتقد آراء معينة في العقيدة، وهو تخصصه، ومعلوم أن عقيدة الأزهريين تختلف في بعض التفاصيل المهمة عن عقيدة هذه البلدان في ظل معارك استعرت بلا أي داع بين الأشاعرة والسلفية أو الوهابية، فنلاحظ أن الرجل ومعه أزهريون كثر ظلوا محافظين على خطهم، دون تعصب، أو مداهنة.
الأزهر صمام أمان في الأحداث الجسام
وفجأة خلا منصب شيخ الأزهر، ووقع الاختيار على الطيب، وجاءت أحداث كثيرة في مصر بعد توليه مباشرة، وهي أحداث جسام، ولذا كانت المواقف أحيانا تميل إلى الدولة أو السلطة، وكانت النية بذلك الحفاظ على الدولة، ولكن جاءت ثورة يناير، وجرت في نهر السياسة والعمل العام مياه أخرى، وهنا استشعرت المشيخة أهمية دورها في أن تكون صمام أمان للمجتمع، يلوذ بها عند الملمات، سواء في الاستحقاقات السياسية التي تلت ثورة يناير، انتخابات، فدستور، فأحداث شد وجذب في الشارع المصري، وهنا فوجئ الجميع بدور المشيخة الذي كان رمانة الميزان في كثير من القضايا.
ثم جاء انقلاب الثالث من يوليو، ثم أحداث فض رابعة وما تلاها، وأيضا كان موقف المشيخة موقفا صلبا وصحيحا، وعتب عليه الرافضون للانقلاب بيانه يوم الانقلاب، والحقيقة أن الناس لم تنتبه للبيان، ولا لكلماته، ولا لأسبابه وخلفياته، فبعد كلمة وزير الدفاع أصبح كل من خلفه محسوبا عليه، دون النظر لأي تدقيق في الكلمات، ولا في معانيها، ومع ذلك كان بيان اثنين من أقرب العلماء له واضحا في رفض الانقلاب، الدكتور حسن الشافعي، والدكتور محمد عمارة، وجاء بيانه يوم فض رابعة واضحا جليا في الرفض والإدانة لإراقة الدماء.
وفيما تلا ذلك من أحداث كانت كلمة المشيخة قوية معبرة بحق عن الأزهر، وما يليق به وبتاريخه، وهذا ما جعل الناس يتساءلون، وكثيرا ما يوجه إليّ السؤال: ماذا حدث للرجل؟ والحقيقة أن طبيعة الرجل كما هي، فهناك عدة عوامل لا يدقق فيها كثيرون في شخصية الرجل وتكوينه، وطبيعة المنصب الذي يليه، تشرح لماذا نحن أمام شخصية الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، بتلك المواقف.
شخصية الصعيدي الأصيل
فتكوين الطيب الأزهري الصعيدي الصوفي الدارس للفلسفة والعقيدة، والمطلع على الفكر الغربي، إضافة إلى ما تمتع به منذ صغره من رعاية أبوية، من أسرة تعنى بالعلم والتصوف، وحب لقاء الناس على ذكر الله وخدمتهم، كل هذه عوامل تنشئة ومؤثرات لا تضيع عبثا في حياة الإنسان، وهو ما يقول عنه الصعايدة والأرياف: تربى على طبلية (مائدة) أبيه، ومن هذا شأنه يصعب أن يكسر عينه شخص، أو يستذله بشيء ما، ربما استماله الإحسان والتودد وحسن الخلق، لكن التحدي يزيد مثل هذه الشخصيات صلابة وعنادا في موقفها، وهو ما رأيناه في شخصيات أزهرية كثيرة، كان منهم الشيخ الغزالي، فقد كان يقول: تأسرني الكلمة الصالحة، وتطوق عنقي، وتستفزني الكلمة السيئة وتهيج غرائزي.
هيبة المنصب والمقام
العامل الثاني المهم هنا هو هيبة المنصب والمقام، فقد تلبس المنصب بالطيب، المنصب من حيث قيمته ومقامه، وليس من حيث زخرفته وأبهته، وهو ما حدث لكثيرين كانوا قبل المنصب شخصيات عادية، ولكن بعد أن اختبرهم الله به كانوا على قدره، رأينا هذا في الشيخ عبد الحليم محمود، وقد كان رجلا خريج السوربون ويرتدي البذلة الإفرنجية، ولكنه عندما سمع عبد الناصر يسخر من الأزهريين ارتدى الزي الأزهري، وعندما تولى المشيخة صار شخصا آخر، إذ عرف بمواقفه الرافضة لإملاءات السلطة، وكان منها قانون الأحوال الشخصية، الذي عرف باسم “قانون جيهان السادات”.
ومن الشخصيات التي برز فيها هذا التوجه بجلاء الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، فقد كان وقت توليه منصب المفتي موافقا السلطة إلى حد كبير، وإن وافقها بتأصيل علمي يدعمه ويسنده في قضاياه، مثل: الصلح مع إسرائيل، وقانون الأحوال الشخصية، ولكن بعد توليه منصب المشيخة، تحول الشيخ جاد إلى شخصية أخرى تماما، وصار شيخا للأزهر بحق، يمثل الأمة ولا يصطدم بالسلطة، ورأينا حركته ونشاطه وبياناته الداعمة للبونسة والهرسك، وضد مؤتمر السكان، ومسلسل العائلة وهو مسلسل هوجمت فيه بعض الثوابت، فعقب ورفض، واضطرهم إلى التعديل في حلقات المسلسل.
والشيخ الطيب على خطى هؤلاء، من حيث تلبس المنصب به، واستشعار الرجل خطورة الكرسي الذي يجلس عليه، وقد سبقه إليه فطاحل العلم، وعمالقة المشيخة، وهو ما نراه في مواقف كثيرة للرجل، من حيث كلماته في المحافل العامة، أو في المواقف التي تم استدعاء المؤسسة الأزهرية لها، من باب إحراجها أو إهانتها، فكان خير حافظ لهيبتها ومكانتها بمواقفه المكتوبة والمرئية والمسموعة، وبخاصة أن منصب شيخ الأزهر لا يعزل من السلطة، وإن ولته المنصب، فهي لا تملك عزله، ولا يعزله إلا الوفاة، وهو عامل أيضا متعلق بهيبة المنصب التي يلقيها على الجالس على كرسي المشيخة.
تحديات واجهت المؤسسة والشيخ
والعامل الثالث والمهم أيضا أن هناك تحديات واجهت مشيخة الأزهر وشيخها منذ عشر سنوات، شعر المراقبون من خلالها بأن هناك تحديا كبيرا يتمثل في محاولة تطويع السلطة للشيخ، وهو ما يأباه الرجل لما تمليه عليه مكانة المؤسسة، رغم أنه ليس صداميا، وطوال حياته يعرف عنه أنه لا يحب إغضاب المؤسسات الأمنية والسلطة في مصر، ولا يسعى لصدام معها، لكن في الآونة الأخيرة جرى التحريش ضد المشيخة والشيخ من إعلاميين أطلقهم النظام على الأزهر شيخا ومؤسسة، مما جعله يشعر بتحد كبير، يراد به كسر هيبة المؤسسة والقائم على أمرها.
فكثيرا ما تجد الهجوم عليه، في كل مصيبة تحدث لها علاقة بالخطاب الديني، رغم أن الأزهر ليست له منابر إعلامية، وليست له منابر مساجد، فالمسؤول عن ذلك وزارة الأوقاف، ولكن لا تجد الحديث يتجه إليها، ولا إلى وزيرها، مثل هذه المناوشات أيضا أشعرت الشيخ بثقل المهمة، وأهمية الحفاظ على المؤسسة، والصمود بها، كي تكمل مسيرتها في الحفاظ على التراث الإسلامي، وتجديده، وتخريج طلبة علم يحسنون فهمه وحمله.
ضغوط للاستقالة
هناك ضغوط واضحة تمارس لكي يضطر الشيخ إلى الاستقالة، من الواضح أن الهجوم الإعلامي المتكرر لا هدف له سوى ذلك، حتى قالت بعض الأصوات الإعلامية: لماذا لا يستقيل شيخ الأزهر؟!
وهو يعلم يقينا أن استقالته معناها مغادرة آخر حصن للأزهر متماسك حتى الآن، فلا هو بالصدامي مع السلطة، ولا هو متماه معها، بل يعمل في القضايا التي تتعلق بالأمة والإسلام بما يمليه عليه ضميره الأزهري، وما تمليه عليه أعراف وتقاليد هذه المؤسسة العريقة، وهو ما يبدو من بيانات المشيخة المتعلقة بالشأن العام المصري، أو العربي، أو العالمي، وفي القلب منه: قضية فلسطين.