في الصين: صحفيون يدفعون “فاتورة” الاستبداد وموتى وباء كورونا!

حشد من الناس يصطفون في طوابير لشراء العدد الأخير من "آبل ديلي" في أكشاك بيع الصحف في هونغ كونغ

تُجمِعُ أربعة شواهد وقعت منذ أيام، على أن التآكل المستمر في حرية الإعلام، يدفع الشعوب من سيئ إلى أسوأ، وأن الرقابة على الصحف آفة مفزعة، قرينة الاستبداد والفساد، وقد ارتبطت الشواهد بأكبر كارثة صحية عرفها البشر خلال نصف قرن، اقترنت بالمعلومات المُضَلِلة رسميًا، ومحاربة السلطات للصحفيين الذين حاولوا توعية الشعب بالمصيبة قبل انتشارها، فمنهم من مات مطعونًا، وآخرون بالسجون، أو يواجهون الملاحقة ومصادرة الأموال.

تظهر اللقطة الأولى إعلان منظمة الصحة العالمية 5 مايو: “إنهاء حالة الجائحة، بعد أن انخفضت حدتها، وأصبحت وباءً معديًا، يقتل 16 ألف شخص حول العالم شهريًا فقط”، عقب أيام من رفض الصين المشاركة بمناظرة علمية، بين نخبة من المتخصصين، لمناقشة الأبحاث التي أجراها خبراء المنظمة وعلماء من أنحاء العالم، لخوفها تحديد موطن الوباء، وتحملها مسؤولية انتشاره.

صرح تيودورس أوهانوم مدير المنظمة أن وباء كورونا قتل 6.9 ملايين شخص رسميًا، بينما يُقَدّر العدد الحقيقي بعشرين مليونًا على الأقل، وإفساده صحة 765 مليونًا آخرين.

 

فضيحة “ووهان”

 

تكشف اللقطة الثانية، إفراج السلطات الصينية عن الصحفي فانغ بن Fang Bin، أول من وثق التفشي المبكر لوباء كورونا، عند انتشاره في منطقة “ووهان” شرق البلاد، فقضى الشاب 3 سنوات و5 أشهر في السجن، بعد فضحه تناقض ارتكبه الإعلام الرسمي، عن “انتشار مرض غامض بين الناس” نهاية ديسمبر 2019.

أظهر الناشط الحقوقي الذي مارس “صحافة المواطن”، على وسائل التواصل الاجتماعي، بمقطع مصور سجله من أحد مستشفيات “ووهان” مبينًا زحام المرضى، وأكياس الجثث وهي تلقى على شاحنات كالقمامة، لنقلها بعيدًا عن عيون الأهالي، بينما كان الجمهور حائرًا بما يحدث في مدينة الوباء.

سجّل فانغ أول حالة وفاة للطبيب لي وينليانغ Li Wen Liang، الذي اكتشف المرض، وأبلغ عنه السلطات، كان جزاؤه السجن ليموت بالوباء داخله، فعاقبت السلطات فانغ لنشره الحقائق، وصرخته غاضبًا، لوفاة الطبيب وزميله الصحفي تشن تشو شي Chen Qiu Shi، يدعو “الناس للثورة لإعادة السلطة للشعب”.

اتهمت محاكم الحزب الشيوعي -تدار بوساطة موظفيه- ما نشره فانغ من حقائق، “بأنها أخبار كاذبة، تحرض على السلطة وإثارة الشغب”، ولم تتراجع المحكمة عن التهمة، رغم اعتراف الدولة بالكارثة، وتطبيقها حالة الطوارئ، بعد 3 أسابيع مع انتشار الوباء، وتسربه عبر المسافرين بالطائرات لأنحاء العالم.

خرج فانغ من السجن، وفقًا لتصريحات ذويه، ولم يعرف أحد مكانه، حتى لا يتحول إلى أيقونة، بعد خسارة 120 ألف قتيل -وفقًا للإحصاء الرسمي- ونحو 1.5 مليون نسمة، لتقديرات محللين رصدوا المحارق الجماعية المكتظة بالجثث، عقب وقف السياسة القمعية لصفر كوفيد-19، مطلع العام.

 

الجائزة الكبرى

 

يمثل المشهد الثالث نقلة نوعية، مع إعلان منظمة هيومان رايتش ووتش، أسماء الفائزين بـ16 جائزة في الكتابة الصحفية والفيديو والوسائط المتعددة، تقدم لها 406 متسابقين من 33 دولة، فذهبت الجائزة الكبرى للقصة الإخبارية باللغة الصينية، لصحيفة “مينغ باو” Ming Pao، في هونغ كونغ، التي نشرت تجربة صحفيين عرضوا حياتهم للخطر، ودخلوا المستشفيات العامة أثناء موجة الوباء الخامسة، ربيع 2022، لرصد نقص الأدوية والأسرّة، وإلقاء المواطنين على الأرض، وسط اهتمام السلطة بدفع المرضى داخل عنابر الاحتجاز القسري، دون أن توفر لهم الرعاية والعلاج.

الجوائز يديرها نادي المراسلين الأجانب في هونغ كونغ، حتى صدر قانون الأمن القومي “الوحشي” في يونيو 2020، أدى إلى غلق 9 من أهم الصحف والقنوات التلفزيونية.

أصرت المنظمة الدولية، على تكريم “المراسلين الشجعان” لفضح انتهاكات حقوق الإنسان، بالتعاون مع كلية الصحافة بجامعة ولاية أريزونا الأمريكية، بعد توقف الجائزة لعام 2022.

 

الصحافة المحرمة

 

يرصد المشهد الرابع فوز الصحفيين بجريدة “أبل نيوز” Apple، في هونغ كونغ بجائزة التقرير الصحفي، بعد أن أوقفتها سلطات الأمن، في 30 يونيو، وأغلقها تمامًا أول يوليو 2022، فصدرت الصحيفة رقم 2 بالجزيرة لمدة 25 عامًا، وكانت أكثر المتحمسين لعودة هونغ كونغ للصين الأم.

تحت عنوان “سقطت أبل وانتهت حرية الصحافة”، يكتب المحررون تجربتهم المريرة، احتفاء بعيد ميلاد جريدتهم رقم 26، الذي يحل الشهر المقبل، ورغم حظر الجريدة ورقيًا، وإزالة محتواها من شبكات الإنترنت، وتطبيقات الهواتف المحمولة، أصر المحررون على تسجل شهاداتهم حول تجربة الغلق المفزعة -بقانون الأمن القومي- عبر صحف أخرى، منها ثاوث تشاينا SCMP وميرور ميديا.

سجنت السلطات ملّاك الجريدة و7 من كبار الكتّاب ورئيس التحرير، بعد نشرهم قصصًا مصورة حول تفشي الوباء وسط ووهان، ومتابعتهم مظاهرات داعية للديمقراطية، دفعت 10 آلاف ناشط بالسجون، ورصدت سحق الشرطة للمتظاهرين، وأطلقت عليهم “الشرطة السوداء”.

كانت الجريدة “سبّاقة بنقل الحقائق ومشاعر العامة”، فقاوم المحررون الخوف من السلطة، لإيمانهم أن المقالات التي تشيد بالحكومة ليست لها قيمة إخبارية، وأن مهمتهم انتقاد السلطة، وطرح مشاكل المجتمع، وأنهم “مواطنون ينتمون للصين ويخدمون البشرية”.

 

القوائم السوداء

 

سرد الصحفيون كيف داهمت قوة هائلة من 500 ضابط، مقر الجريدة يوم 24 يونيو 2022؟ فصادرت أجهزتها، وأرصدة 3 شركات تابعة، وأصول بـ18 مليون دولار، وحولت المقر إلى “مسرح جريمة” وأغلقته بالشمع الأحمر.

بعد 50 عامًا من الحريات الصحفية، تحولت “أبل” إلى فاكهة محرمة محظورة، في بلد حولت العمل بالصحافة إلى جحيم، وسممت حرية التعبير، ونقلت حيازة وسائل الإعلام الكبرى لرجال أعمال يخضعون للحزب الشيوعي، بينما ذهب الصحفيون إلى السجن واحدًا تلو الآخر، ومنهم من ابتعد عن المهنة أو سافر للخارج خوفًا على أنفسهم وعوائلهم، مع وضعهم جميعًا على القوائم السوداء.

يبكي الشباب المحررون وهم يرفعون العدد الأخير، بيعت منه مليون نسخة، ينعون أجواءً غير مواتية للمهنة، وحرية صحافة ميتة، بدأت الذبول بالجزيرة المبهرة منذ عام 2014، ولم يتوقع أحد أن تصل إلى هذا السوء.

الصحفيون الصينيون، كأنهم معنا يعيشون أجواء مماثلة، يسعون للاطمئنان على من بداخل السجون، وانتظار يوم تنكشف فيه الغمة، مؤمنين بأن أسوأ حقبة في تاريخ الشعوب تحتاج إلى الصحفيين وصحوة الصحافة أكثر من غيرها.

 

 

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان