انتصار جديد للديمقراطية في تركيا

كمواطن مصري، لا أمتلك غير الإعجاب بالتجربة الديمقراطية في تركيا، البلد البعيد عني جغرافياً حيث أعيش.
ورغم هذا البعد أشعر أنني أشترك مع كل تركي من الـ 84 مليوناً، عدد سكان هذا البلد، في الإيمان بالحكم الرشيد، وأفضل تعبير عنه هو النظام الديمقراطي بقيمه وآلياته وصناديق انتخاباته ومفاجآته أياً كانت، وهو ما نتابعه حالياً في تركيا، بعد البرازيل، وبلدان أخرى تسير على الطريق الديمقراطي المستقيم في العالم.
لا نظام حكم آخر يتسم بالأفضلية والعدالة للشعوب جميعها غير النظام الديمقراطي حتى الآن، ربما يتفتق ذهن فلاسفة وخبراء السياسة ومنظريها عن إبداع نمط حكم جديد أفضل، لكني أظن أن النظام الديمقراطي الدستوري سيظل أساس الحكم الرشيد، ومصدر رفاهية الإنسان، وهذا النظام قابل للتطوير لمحاولة الاقتراب من النموذجية في الإدارة، فالديمقراطية تطور نفسها، وتعدل آلياتها مع كل تجربة جديدة في كل بلد حر.
خدمة السيد المواطن
أتابع الانتخابات منذ انطلاقها، مثل المواطن التركي، رغم أنه هو المستفيد مما يجري في بلاده من تنافس بين المرشحين الأساسيين للرئاسة؛ الطيب أردوغان وكمال كليجدار أوغلو، ومن تنافس عشرات الأحزاب وألوف المرشحين للبرلمان.
وهذا التنافس الشرس هدفه الناخب حيث ينعكس عليه في صورة أفكار وسياسات وبرامج يقدمها كل مرشح لاستمالته إلى جانبه، والفوز بثقته، ويتم مخاطبة هذا المواطن باعتباره المخدوم؛ والمرشح هو الخادم عنده.
في تركيا، وفي كل ديمقراطية؛ المواطن هو السيد، فلا معنى أرقى، إذاً، للحرية والكرامة إلا ما تعنيه مقولة المواطن السيد في الوطن السيد.
مصلحة كل مؤمن بالديمقراطية مشاركة الأتراك في عرسهم بغض النظر الفائز، وتشجيع كل تحول سياسي وكل إصلاح يستهدف خدمة الإنسان في أي مكان، ويجب أن نكون سعداء بكل تجربة حكم تقوم على الاختيار الشعبي الجاد، فهذا يمنح الأمل بأن تتغير منطقتنا وتدرك أن نجاتها في الديمقراطية، وليس لمرة واحدة عابرة، هنا أو هناك، مثل وميض يظهر ويختفي سريعاً.
الاستبداد تحت الضغط
الماراثون الديمقراطي والتفاعل العالمي معه، بغض النظر عن انحيازات بعض الحكومات، يضع الاستبداد تحت ضغط معنوي وأدبي وسياسي، فقد يرى في لحظة صدق مع النفس أنه شاذ عن قاعدة الحكم الأمثل، وقد يتسبب ذلك في إرباك أنصاره ويجعلهم يفكرون ويُعملون عقولهم وينظرون لمصالحهم الأوسع كثيراً من مجرد مصالح ضيقة مؤقتة مرتبطة بوجود مستبد في الحكم ينفرد بالرأي والسياسة والقرار ويحول الجميع إلى عرائس يحركها وفق إرادته فيمسخها.
والمستبد مهما امتلك من مواهب وقدرات ومهما ادعى الحكم والفهم والعلم فإن قراراته لايمكن أن تكون كلها أو معظمها أو غالبيتها آمنة مفيدة لعموم الناس والبلدان.
وعندما يكون هناك صوت آخر حر مواجه لصوت الحكم، فإن الحاكم يجتهد بشدة وينام بعيون مفتوحة كي لا يقع في الخطأ، فالاستبداد مثل الظلام يتسبب في التخبط والضياع ويتسبب في السقوط وارتكاب حماقات مدمرة، أما وجود الأنوار فإنها تجعل الرؤية واضحة والمسار معروف وتفرض على السلطة الانضباط والمسؤولية في القرارات، والصوت الآخر هو النور الكاشف لكل السلبيات.
تجربة أردوغان في 20 عاماً
أواكب التجربة في تركيا منذ زلزال 2002 السياسي عندما حقق حزب العدالة والتنمية، حديث النشأة حينئذ، نتائج مفاجئة مذهلة وفاز بالأغلبية في الانتخابات وشكل الحكومة وهو يحكم البلاد طوال 20 عاماً ويفوز في كل الانتخابات.
والمحرك وراء كل ذلك هو أردوغان، وهو زعيم ديمقراطي، وليس مستبداً، أو ديكتاتوراً، كما تروج حكومات وساسة ووسائل إعلام، وأيضاً هواة تزييف واقع يصعب تزويره.
المستبد لايجري انتخابات تنافسية، إنما يفوز باكتساح في انتخاباته الشكلية، ويسجن المعارضة، ويكتم الأصوات المخالفة.
ونتيجة التصويت عنده لا تظل غير معروفة طوال الحملة الانتخابية، وخلال الفرز منذ أول صندوق حتى آخر صوت.
وفوز المستبد لا يبقى مرهوناً بحصوله على عدة الآف من الأصوات، ويضطر لدخول جولة إعادة مع مرشح المعارضة القوى الذي يلاحقه ويتفوق عليه في عديد المناطق والولايات.
والمستبد تتحدد له النتيجة قبل أن تبدأ الانتخابات الهزلية. والديكتاتور لايجري انتخابات من الأصل، فهو يعتبر نفسه فوق الانتخابات والصناديق والبشر، لكننا أمام حاكم مدني يدرك أنه لن يبقى في منصبه إلا إذا قدم كل يوم إنجازاً جديداً، فهو في امتحان دائم عصيب أمام معارضة شرسة لاترحمه.
هنا الديمقراطية، وهنا تكون التنمية وخططها ومشروعاتها وجدواها، والموازنة ومصادرها وأوجه إنفاقها المنضبطة، والقرارات وسلامتها، والتشريعات وأهدافها الشعبية، والحكم وتوجهاته الصحيحة، وكل هذا وغيره يصب في مصلحة المواطن، ويتم تحت سمع وبصره، بسبب وجود المعارضة التي تراقب وتحاسب وتنتقد وتهاجم.
لماذا الإشادة بحكمة المعارضة واجبة؟
لأنها بممارسة السياسة والقيام بدورها تتيح للسلطة بأن تحكم وهي مطمئنة من عدم الغدر بها أو طعنها من الخلف بالتحالف مع رافضي السلطة وكارهي الديمقراطية، وتركيا لها تاريخ طويل في الانقلابات العسكرية على الحكم المدني.
يكفينا رصد الموقف الأهم للمعارضة بكل أطيافها طوال فترة حكم أردوغان وحزبه، فقد رفضت تأييد محاولة الانقلاب العسكري على الديمقراطية في يوليو 2016، وكان ذلك ضمن أسباب انكشاف الانقلابيين وانكسارهم، هناك أسباب عديدة مهمة بالطبع على رأسها وعي الشعب التركي ومقاومته لمحاولة الغدر بديمقراطيته والحكم المدني والإنجازات التي يقطف ثمارها.
تخيلوا لو أن المعارضة دعمت الانقلاب ونجح الجنرالات في الإطاحة بحكومة أردوغان لكانت التجربة الديمقراطية قد سقطت، وعادت تركيا للوراء عشرات السنين، وضاعت كل الإنجازات الهائلة، واستشرى الفقر والفساد والتخلف مجدداً، ولم نكن أمام تركيا فاعلة في العالم كما هى اليوم، ولم تكن هناك معارضة ومرشح لها يصول ويجول وقد يفوز في الإعادة ويحكم.