في ذكرى ميلاده.. هدية المسؤولين للشيخ محمد رفعت إزالة مقبرته!

عندما سُئل الشيخ محمد متولي الشعراوي في أحد البرامج التلفزيونية عن أحبّ المقرئين لنفسه، قال: “في التجويد الحصري، وحلاوة الصوت عبد الباسط، والمقامات الموسيقية مصطفى إسماعيل، أما صوت الشيخ محمد رفعت ففيه كل ذلك مجتمعًا”، وهكذا لخّص الإمام الشعراوي في كلمته أسلوب الشيخ رفعت في تلاوة القرآن الكريم.
لذلك، يعشق الشعب المصري والشعوب العربية والإسلامية جميعها صوت محمد رفعت، ويعدّونه الصوت الشّجي الذي يفكّرهم بأيام الزمن الجميل، من خلال سماع القرآن قبل المغرب، وصوت أذانه، خاصة في شهر رمضان الفضيل.
هدية الشيخ
ولكنّ المسؤولين عن الطرق في مصر أرادوا أن يحتفلوا بذكرى ميلاد الشيخ محمد رفعت الذي يوافق الـ9 من مايو بأسلوب وفكر جديدين كعادتهم، حيث أصدروا قرارًا بإزالة مقبرة الشيخ التي توجد في منطقة مقابر السيدة نفيسة التابعة للمنطقة الجنوبية في القاهرة، وتعرف باسم “قرافة السيدة نفيسة”، لتوسعة محور صلاح سالم.
لذا، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي غضبًا وحُزنًا بعد سماع الخبر، ومعرفته من حفيديه علاء وهناء حسين رفعت، اللذين قالا: “إن الأسرة تلقّت خطابًا من إدارة الجبانات بمحافظة القاهرة ينصّ على قرار بإزالة مقبرة الشيخ محمد رفعت، رغم أن المسؤولين وَعدوهم باستثناء المقبرة من الإزالة”.
وفي تصريحات تلفزيونية لحفيدة الشيخ، قالت: “إن الشيخ مدفون في (لَحد)، والأرض لم تأكل جثمانه”، وناشدت المسؤولين التعامل مع مقبرة جَدها كما جرى التعامل مع مقبرة الدكتور طه حسين من قبلُ، كما قالت الأسرة: “إن القبر يأتي لزيارته الناس من كل أنحاء العالم”.
الشيخ والإذاعة
ولقد عاش الشعب المصري -منذ افتتاح الإذاعة- على صوت الراحل الشيخ محمد رفعت، يستمعون له وهو يتلو القرآن، خاصة قبل أذان المغرب في شهر رمضان المبارك، وهو الذي رفض التعاقد مع الإذاعة المصرية عندما بدأت بثّها في عام 1934، وفضّل الاكتفاء بالقراءة في المساجد.
ولكنّ المسؤولين عن الإذاعة وقتها أصروا عليه، ولجؤوا إلى شيخ الأزهر -حينذاك- محمد مصطفى المراغي، لإقناعه، فذهب إليه المراغي ليسأله عن سبب الرفض، فقال له مقولته الشهيرة: “أخشَى أن يُقرأ القرآن على السّكارَى، فأرتكب إثمًا”، فأقنعه الشيخ المراغي بأن هذا لو حدث ففيه توعية للغائبين، وقال عنه: “هو منحة من الأقدار حين تهادن وتجود، بل تكريم منها للإنسانية”.
وافتتحت الإذاعة المصرية أول إرسالها بصوت الشيخ محمد رفعت، وكان أول ما تلاه قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}، وكان يقرأ على الهواء مباشرة القرآن الكريم، ويرفع الأذان، حتى أصبح رمزًا لها، وكان يقرأ مرتين أسبوعيًّا (الثلاثاء والجمعة) لمدة 45 دقيقة، وكانت إذاعات لندن وبرلين وباريس تذيع تسجيلاته أثناء الحرب العالمية الثانية، لتشدّ المستمعين في العالم الإسلامي إلى برامجها، ونشراتها الإخبارية، حتى ذاع صِيتُه في أنحاء العالم جميعه.
“مؤذن رمضان”
وقد كان الشعب المصري يلتفّ حول الراديو في المقاهي والمنازل، لسماع القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت، حتى أن عددًا من الدول العربية والإسلامية طلبت سفره إليها، ولكنه رفض ترك مصر، فاضطهده مستشار الحكومة الإنجليزية في الإذاعة، واضطر لترك العمل بها، فاشتعل غضب الشعب المصري حينَها، فما كان إلا أن أصدر الملك فاروق قرارًا بعودته، ليُذاع صوته 3 مرات يوميًّا، حتى اقترن صوته بالأذان والقرآن طيلة شهر رمضان، ومن يومِها عرف بـ “مؤذن رمضان”.
وأعتقد أنه ليس هناك مَن لم يسمع من قبلُ عن “قِيثارة السماء”، و”مقرئ الغلابة”، و”قارئ الشعب”، وكلُّها ألقاب أطلقت على الشيخ محمد رفعت الذي ولد في حي المغربلين بالقاهرة في الـ9 من شهر مايو عام 1882، وتوفي في يوم ميلاده نفسه 1952، وقد فقَد بصره وهو في الـ3 من عمره، وذكر البعض أن ذلك حدث وهو في عمر الـ5 سنوات.
وبدأ حفظ القرآن الكريم مبكرًا، وأتمّ حفظه وهو في سن الـ11، ودرس التجويد والقراءات، وغيرهما من علوم القرآن، والتفسير، والمقامات الموسيقية، وتوفي والده -مأمور قسم الخليفة- وهو في الـ19 من عمره، ليتحمّل مسؤولية أمه وإخوته، فكان يشترك في إحياء ليالي المآتم بالسُّرادقات، حتى سمعه مشاهير قُراء القرآن الكريم، فأحبّوه، وجرى تعيينه قارئًا في مسجد فاضل باشا في السيدة زينب.
اغتصاب حلم الشيخ
وفي عام 1942 أُصيبت حنجرته بـ”زغطة”، أو “فواق” تقطع عليه تلاوته، وانقطعت القِيثارة عن ترديد القرآن في الإذاعة والمناسبات، وللأسف سبّبت “الزغطة” ورمًا يُعتقد أنه سرطان الحنجرة، فأنفق عليه ما يملك حتى افتقر، لكنه لم يمدّ يده إلى أحد، حتى عندما عمل المصريون اكتتابًا له، ووصل المبلغ الذي تم جمعه حدود الـ50 ألف جنيه لعلاجه، قال مقولته المشهورة: “إن قارئ القرآن لا يُهان”، واعتذر عن قبول المبلغ، رغم أنه لم يكن يملك تكاليف العلاج.
وظل طوال حياته مقيمًا في السيدة زينب حتى وفاته في عام 1950، ونَقلت الإذاعة خبر وفاته، قائلةً: “أيها المسلمون، فقَدنا اليوم عَلمًا من أعلام الإسلام”، وكان حلم الشيخ محمد رفعت أن يُدفَن بجوار مسجد السيدة نفيسة، حتى تقرر منحه قطعة أرض بجوار المسجد، فبنى مقبرته عليها، وقد كان من عادته أن يذهب كل يوم اثنين أمام المدفن، ليقرأ ما تيسر من القرآن.
والآن.. حتى الشيخ الذي تُوفي منذ 73 عامًا، لم يتركوا له حلمه بعد أن قرروا إزالة قبره، لأنني أعتقد أنهم لا يعرفونه أصلًا، ولا قيمته، ولكنهم يبحثون عن قيمة الأرض!
ماذا وراء هذه التصرفات؟ وأين التخطيط المعماري الذي يراعي التاريخ والآثار؟ نحن لدينا العديد من الخبراء الذين يستطيعون الحفاظ على طابع المدينة العريقة، ولكننا للأسف -كالعادة- لا نسألهم!