لماذا يرفض مصريون استقبال سودانيين فارين من اقتتال العسكر؟!

أول وأقرب بلد يفر إليه السودانيون خلال الأزمات والصراعات والانقلابات، والاقتتال الداخلي، وعند ضيق ذات اليد، هو مصر، فهناك ارتباط تاريخي بين شعبي وادي النيل، وقد كانا بلدًا واحدًا له حاكم مصري واحد، وفي محافظات الصعيد بجنوب مصر يصعب التفريق بين المصري والسوداني بسبب التقارب والتمازج والتزاوج والجذور القبلية والعائلية المشتركة، وكذلك في اللهجة والزي والعادات والثقافة الشعبية.
وتاريخيًّا فإن مصر بلد استقبال وتوّطن لكثير من العرب والمسلمين، والأجانب أيضًا، فالإسكندرية مثلًا على ساحل البحر المتوسط هي مدينة كوزموبوليتان، وكانت يومًا مسكونة بجنسيات بلدان أوروبية كثيرة؛ يونان وقبارصة ومالطيين وإيطاليين وفرنسيين وبلجيكيين وألمان وأرمن، علاوة على الأتراك والإنجليز وغيرهم.
وقد انصهرت في مصر أجناس كثيرة من الشرق والغرب مرت بها غزوًا واحتلالًا، أو عملًا ونشاطًا، أو لجوءً واحتماءً، أو إعجابًا وانبهارًا، أو استقرارًا وحياةً، فهي بلد يعيش فيه العالم بامتدادات قديمة وأنتج ذلك أجيالًا تحمل صفات وجينات وروح وعمق وجوهر مصر، وقد صاروا مصريين أصلاء أعزاء.
هذا تاريخ طويل وقصص مُسّطّرة بمداد عتيق، ذلك أن أبواب مصر مفتوحة على مصراعيها لينهل كل قاصديها من خيرها، ويخبرنا القرآن الكريم في سورة يوسف عليه وعلى نبينا السلام أنه في زمان سحيق كانت مصر هي المنقذ لنفسها وساكنيها وجوارها من القحط والمجاعة والهلاك.
والشقيق السوداني له مكانة خاصة في مصر، وكذلك كل عربي، وكل إنسان، فجميعهم يجدون في هذا البلد أمانًا وطعامًا وشرابًا واندماجًا وعيشًا إذا رغبوا في البقاء والتناسل.
مصر تسكن قلوب السودانيين
لم أذهب إلى السودان، لكن السودانيين معنا بحجم دولة في مصر، والتقيتهم خارج مصر، وتعاملت معهم، وأكلنا معًا، وتحدثنا كثيرًا وطويلًا، ووجدت أن المشتركات كثيرة، بل متطابقة، كأن المصري والسوداني شخص واحد، بل هما كذلك، ووجدت منهم حبًّا لمصر، وهي تتغلغل في مشاعرهم وتسكن قلوبهم، وحلم كل واحد منهم أن يذهب إلى مصر زائرًا أو عابرًا أو عاملًا أو مقيمًا أو مُؤسسًا لحياة جديدة.
والسوداني يعيش في مصر حياة طبيعية كاملة مثل المصري، لا فرق، منذ كانا قُطرًا واحدًا، وما بعد الانفصال في عام 1956 لم يتغير شيء تقريبًا، ولهذا فإن أكثر من يحملون جنسيات أخرى في مصر هم السودانيون، سواء إقامة اختيارية، أو إجبارية فرضتها ظروف قاهرة تحت ضغط أزمات السياسة وقمع الانقلابات ورصاص الاحتراب وتردي الاقتصاد في بلد هو الأغنى عربيًّا وأفريقيًّا بموارده الطبيعية، لكنه منكوب بالاستبداد والفساد والتناحر، وفي هذه الآفات المدمرة لا تختلف عنه معظم الدول العربية وكثير من البلدان الإسلامية.
السودان طارد لأبنائه
اقتتال عسكر السودان؛ حميدتي والبرهان، تسبب في موجات فرار ونزوح للمدنيين إلى بلدان الجوار، ومصر في مقدمة الدول التي يدخلون إليها بحثًا عن الأمن والخبز فيها.
والسودان قصيدة حزن في هروب شعبه من أنظمته وحكامه، وقد لاحظت أن السوداني الذي يعمل في الخارج لا يود العودة في نهاية المطاف إلى وطنه، وإنما يجتهد ليؤسس حياة مستقرة له في بلد الإقامة والعمل، أو اللجوء والهجرة إلى البلد الذي ينجح في نيل جنسيته، مما يعني أن السودان طارد لأبنائه رغم تسامح ونقاء هؤلاء الأبناء مثل ملابسهم البيضاء.
لكنها آفة الدكتاتوريات واحتكار السلطة من جانب الجنرالات، وتناحر التيارات والقوى السياسية التي لا تقدر مسؤولياتها ورسالتها تجاه مواطنيها.
ومع كل معضلة سودانية داخلية تظل مصر هي الملاذ الآمن للفارين، ولم يتراجع العدد في أي وقت عن عدة ملايين، وهو اليوم نحو 4 ملايين سوداني، وهذا العدد موجود قبل الإطاحة بنظام البشير، وواضح أن أوضاع البلد لم تكن مشجعة لعودتهم رغم نجاح ثورتهم التي تضيع أهدافها، أو ضاعت بالفعل.
حقيقة رفض السودانيين في مصر
لماذا هذه المرة يتململ مصريون من نزوح سودانيين إلى مصر؟
الحقيقة أنه يصعب رصد نسب المصريين الرافضين لوجود مزيد من السودانيين في مصر، فلا إحصائيات أو استطلاعات رأي عام بهذا الشأن، وإذا وُجدت فلا يمكن الوثوق بها؛ حيث إن المناخ السياسي غير ملائم لإجراء بحوث رأي عام نزيهة وشفافة يمكن الاقتناع بنتائجها.
لكن هناك بالفعل أصوات على مواقع التواصل تعلن صراحة رفضها لاستقبال مصر لنازحين سودانيين جدد، وبعضهم يتذرع بتفاعلات الأزمة الاقتصادية الحادة التي تمر بها مصر ويكابدها المصريون بسبب سياسات عامة لم يكن بعضها موفقًا، وبسبب إنفاق في مشروعات لا ضرورة مُلِحّة لها، وغياب طاولات الحوار السياسي والمجتمعي بشأن دراسة خطط ومشروعات التنمية، والتوسع في الاستدانة بشكل خطير، وبناء مقار حكومية ودينية وثقافية وترفيهية وقصور بجانب مظاهر بهرجة دون حاجة إليها، وتفرد الصوت الواحد في الإدارة لبلد سكانه فوق مئة مليون نسمة يرتبط مصيرهم ومعاشهم بسلامة وحكمة القرار.
من هنا ينزعج مصريون من أي أعباء جديدة على بلدهم بينما هم يعانون للحصول على رغيف الخبز، وهم غالبًا لا يحتجون على قدوم سودانيين، وإنما احتجاجهم رسالة غير مباشرة بقسوة الحياة عندهم.
كما أنهم في هذا الموقف متأثرون بخطاب رسمي متواصل مضمونه أن البلد فقير، والضغوط هائلة، والظروف الداخلية والخارجية طاحنة، والأموال محدودة، والكثافة السكانية مشكلة، وبالتالي كيف في ظل هذا الخطاب المُحبِط يتم استقبال لاجئين من حرب يفجرها سودانيون ضد أنفسهم وشعبهم دون مسؤولية مع ما يترتب على ذلك من تفاقم أزمات مصر.
لكن هناك المنطق الأصلي السائد المضاد أن مصر لا يمكن أن تُغلق أبوابها أمام من يطرقها، خاصة إذا كان سودانيًّا، ومصر التي تستوعب 6 ملايين لاجئ لا يقيمون في معسكرات نزوح، وإنما يذوبون مع المصريين، ستظل مخلصة لتاريخها وأخلاقها في احتضان كل من يطلب الأمان عندها رغم أزماتها، مصر الكريمة هي الأبقى والأوفى.