“الهرم المبعجر” وزمانه

كنت محظوظا وزملائي من طلبة كلية الإعلام جامعة القاهرة في النصف الثاني من عقد السبعينيات. فقد درّس لنا وعلمنا فنون كتابة الخبر الصحفي الراحلان: د. أحمد مغازي، ود. فاروق أبوزيد رحمهما الله. و أدركت لاحقا أن كليهما على طرفي نقيض في الموقف من عهد الرئيس “عبد الناصر” وصحافته.
لكن لا يمكن الزعم بأنهما اختلفا فيما علماه لأجيال توالت عن قالب أو نظرية “الهرم المقلوب” في كتابة الخبر. لا هما ولا أي من مساعديهما الأفاضل الذين عهدا إليهما بتدريبنا عمليا في قاعات “المعمل الصحفي”. ولهم جميعا أفضال بشأن كتابة الخبر، وغيره من فنون وقوالب صحفية أخرى، على آلاف من ممارسي المهنة في مصر والمجتمعات العربية الشقيقة.
وفكرة “الهرم المقلوب” ببساطة تقوم على تحرير الأخبار وفق قاعدة الأهم فالأقل أهمية. وهكذا تتوالى فقرات الخبر على هذا النحو. وربما تنتهي بفقرة تذكرة تعرض لمعلومات ليست بالجديدة، لكنها تعطي خلفية لا تخلو من سياق و دلالة وعمق. وفي كل الأحوال، يُصبح من السهل الاختصار من أسفل المتن. كما يقترن “الهرم المقلوب” باختيارعنوان جذاب يلفت إلى معلومات جديدة، ومن أهم ما في الخبر، أي من الفقرة الأولى (المقدمة).
التطورات المتلاحقة
وربما تختلف أحيانا كل وسيلة إعلام ناشرة للخبر ومعها محرره في تقدير ما هو الأهم فالأقل أهمية، لكن ما نشهده هذه الأيام في العديد من مواقع الصحف الإلكترونية عندنا يطيح بقواعد علم ومهنة استقرت، ويُحطم “الهرم المقلوب”، الذي يؤرخ البعض بظهوره في الصحافة العالمية مع اختراع “صمويل موريس” للتلغراف نحو العام 1835، وهو الذي أحدث بدوره ثورة في نقل المعلومات ومعها الصحافة المطبوعة، وأسهم في ترسيخ قيمة الوقت واحترامه مع عصر الصناعة الحديثة بالبخار والكهرباء والتنظيم الأكثر تعقيدا للعمل ورأس المال.
وبالطبع فإن أحدا لا يمكنه الاعتراض على التطورات المتلاحقة التي تجلبها ثورة تكنولوجيا المعلومات للعالم. ونحن في النهاية جزء منه. وبالفعل لدينا اليوم أجيال لم تمر بالصحافة الورقية، وأصبحت تستقى معلوماتها عبر شاشات الهواتف النقالة، وتعتمد عليها في مختلف مناحي الحياة وتفاصيلها لحظة بلحظة، ولا أقول يوميا. وكل تطور في فنون الصحافة والإعلام مطلوب ومرغوب طالما احترم حقوق الجمهور ولبى احتياجاته.
تطور مقبول
وثمة تطور مقبول في تحرير الخبر الصحفي بفعل الوسائل الإلكترونية العصرية بأجيالها الأحدث الناقلة له، واحتراما للوقت ومراعاة لقواعد الدقة والسرعة معا، وتوافقا مع ضرورات تكنولوجيا المعلومات وتقدم أجهزتها وتطبيقاتها، وتأثيراتها على إنسان القرن 21. وعلى سبيل المثال، من المقبول ـ بل والضروري ـ توخي كلمات أقل في عناوين الخبر وفقراته، أو إبراز كلمات بعينها تسهل العثور عليه وسط فيض تدفقات شبكة الإنترنت. وكذا إضافة تقنيات وفنون الوسائط المتعددة ” مالتيميديا” إلى المتن المكتوب، كالرسومات والصور ومقاطع الأصوات والفيديو، وغيرها من أشكال التفاعل مع الجمهور أو المستخدمين.
وكل هذا شيء، وإن لم يمس كثيرا بعد ولليوم جدارة “الهرم المقلوب” في تحرير الخبر، ومكانته بين قوالب التحرير الصحفي المتعددة والمضبوطة بالعلم والممارسة. أما الشيء الآخر والمختلف تماما فهو ما أصبح ملحوظا عندنا في العديد من المواقع الصحفية الإلكترونية باللغة العربية حين تبحث عن المعلومة الجديدة الواردة في عنوان الخبر فلا تعثر عليها إلا بصعوبة، ومع إهدار الوقت وبعدما يتملكك الملل ربما تجدها مدفونة في سطر بنهاية النص، أو ختام فقرة بعد منتصف المتن، أو لاتجدها أبدا.
وفوق كل هذا ، أصاب عناوين أخبار عدد من المواقع الصحفية العربية المنتشرة بشبكة الإنترنت داء الإلغاز والإبهام، وبظن إثارة فضول القارئ نحو المجهول، وبدلا من إبراز المعلومة الجديدة الأهم. وهذا فضول يقود إلى مجهول، ويختلف عن فضول لتفاصيل ما أصبح معلوما. وهكذا تنتشر اليوم عناوين تستهلك “إكلاشيهات” على غرار :”تعرف على قرارات/ أسعار/ اليوم …”. والأكثر مدعاة للأسف والاستغراب أن تنتهى أحيانا إلى لاشئ أو للاجديد.
هذه التشوهات التي طرأت على كتابة الخبر مؤخرا تجعله خاضعا لقالب أو نظرية يمكن أن نطلق عليها “الهرم المبعجر”. وفي تفسير هكذا تشوهات نشير إلى تدهور مستوى مستقى ومحرري الأخبار عندنا، ومعهم من يحملون مسؤولية إدارة العديد من مواقع الصحافة الإلكترونية العربية. ويبدو أن الانفجار في أعداد هذه المواقع على مدى نحو العقدين لا يجاريه هذا النمو الهائل لأعداد كليات ومعاهد الإعلام والصحافة بعموم العالم العربي مع برامج تدريس بلا حصر وحتى إليكترونيا. و هذا على خلاف ما كان عليه الحال من ندرة منذ نهاية الستينيات وبطول السبعينيات، وبخاصة في مصر مع معهد فكلية الإعلام وبتونس “معهد الصحافة وعلوم الأخبار”. وكلاهما بدا وحيدا في بلده في هذا الوقت، بل وفريدا في محيطه الإقليمي.
إلا أن هناك أسبابا أخطر يمكننا استقراءها في تخلل واعتراض الإعلانات نصوص ومحتوى الأخبار الإلكترونية وبين فقراتها. ويبدو أن هكذا “بزنس” يقتضى تأجيل نشر المعلومة الأهم، وإن وجدت أصلا، وحتى يدفع القارئ أو المتصفح دفعا إلى البقاء لأطول فترة ممكنة بذات الصفحة، ومع فرض الإعلانات فرضا على “فاتورة” استهلاكه للإنترنت. وفي هذا ما يتجاوز الخداع والتضليل إلى مايشبه “سرقات بالإكراه” تستهلك الوقت وتستنزف الأموال.
توحش الإعلان
قبل نحو ستين سنة، نبه عالم الاجتماع والاتصال والباحث الأمريكي “هربرت شيللر” في كتابه المترجم للعربية بعنوان “المتلاعبون بالعقول” إلى توحش الإعلان بالولايات المتحدة، وتوظيفه لابتذال الرسائل الإعلامية المعلوماتية والمعرفية وتجزئتها والتشويش عليها وإفراغها من المعنى، مما يسفر عن تضليل المتلقي وسلبيته وتبلده عقليا وتدمير قدراته على الفعل الاجتماعي والإنجاز الإنساني.
واليوم وهنا عندنا، يتوحش الإعلان ومعه اللامهنية. وتتبدى مظاهره على هذا النحو، وكما مع “الهرم المبعجر” وزمانه. وهناك جانب لا بأس به من إعلامنا ما زال يتعثر في أثقال سلطوية وتخلف يحمل الخبر بأسماء وألقاب وأوصاف و”بروباجندا” على حساب أن نعلم ما حدث، وحتى مع أنباء الحوادث والجرائم. والمشكلة اليوم أننا نلاحق كمستهلكين عصر ثورات معلوماتية كبرى متلاحقة متسارعة بمجتمعات تغيب عنها أبجديات التفكير العلمي، ولا تسهم منذ قرون في تطويره أو إنتاج التكنولوجيا الحديثة. وأيضا ما زالت بحكم غياب الديمقراطية وانتهاك الحريات والحقوق خالية أو تكاد من تنظيمات ومؤسسات وآليات وتقاليد تسمح بالدفاع عن أخلاقيات الصحافة وحقوق الجمهور بفاعلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) “مبعجر” كلمة عامية مصرية، يقابلها في معاجم اللغة العربية مشتقات من فعل “بعج” و”انبعج”.