أم كلثوم.. الذكاء الاصطناعي.. هل يعيدها للحياة والغناء بصوتها مُجددا؟

اشتعلت معركة إعلامية حامية الوطيس منذ أيام بين المنتج محسن جابر صاحب حقوق الأداء العلني لأغاني سيدة الغناء العربي أم كلثوم، بتوكيل من ورثتها، والمُلحن والمُغني “عمرو مصطفي”، لقيام الأخير باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في استنساخ صوت أم كلثوم (1898- 1975م)، لتأدية أغنية من تلحينه عنوانها “افتكر لك إيه”.. قامت الدنيا ولم تقعد، مع بث عمرو مصطفى لمقطع من “الأغنية” بصوت أم كلثوم (المُزيف بالذكاء الاصطناعي) على مواقع التواصل، ترويجا للأغنية.. الواقعة أثارت جدلا واسعا في الأوساط الفنية ولدى الجمهور، واتهم المُنتج جابر، الملحن مصطفى بتشويه التراث الغنائي، والاعتداء على حقوقه القانونية، وتبادل الطرفان الهجوم والتلويح بالتقاضي.
تأليف القصص والأشعار والأغاني ومُحاكاة أساليب كبار الأدباء
بداية، فـ”الذكاء الاصطناعي”، هو برامج كمبيوتر، تم تدريبها على محاكاة عقول البشر، واستيعاب وفهم استجاباتهم، وأفكارهم، وتحليلها والاستنتاج منها، ومن ثم تتولد “ردود أفعال” ملائمة للبشر، تتسم بالسرعة الفائقة. تشهد الآونة الأخيرة، تطورات مُذهلة لـ “الذكاء الاصطناعي التوليدي”، فعلى مدار الساعة تظهر له، على شبكة الإنترنت “مواقع، وأدوات، وتطبيقات” منها ما يمكنه، بناء على طلبك وبمعلومات بسيطة منك، تأليف كافة أنواع القصص والروايات للكبار والأطفال، والأشعار، والأغاني والموسيقى وتلحين الأغاني، والتعديل على هذا كله. يمكن لهذه الأدوات، مُحاكاة أساليب كبار الأدباء والشعراء ومؤلفي الأغاني، والرسامين، لتجد بين يديك إنتاجا شعريا أو أدبيا يشبه إبداع شاعر أو أديب مشهور تختاره أنت. وكذا صناعة فيديو لك، أو لشخص آخر، بصورتك وصوتك تماما، دون أن تكون قد نطقت شيئا، فلديها القدرة على استنساخ الأصوات إن توفر تسجيل صوتي لعدة دقائق للشخص المراد استنطاقه بكلام لم يقله، او المطرب المطلوب للغناء بصوته دون أن يكون حتى على قيد الحياة، على غرار ما فعله المُلحن عمرو مصطفى مع
أم كلثوم.
تزييف الصور لبابا الفاتيكان بملابس غير كهنوتية.. والقبض على ترمب
هذه الأدوات والمواقع، تستطيع أيضا إنتاج فيديوهات عادية، وثلاثية الابعاد (الكارتون)، وعمل مونتاج للأفلام، والدردشة حين تريد عبر برنامج شات جي بي تي (chat gpt). كما أنها تُجري تعديلات على الصور في ثوان معدودة، فيكون الناتج “صورا مُزيفة” على شاكلة الصور التي انتشرت في مارس/ آذار الماضي لبابا الفاتيكان البابا فرنسيس مرتديا جاكت وملابس حديثة، غير كهنوتية، والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب مُحاطا برجال الشرطة يقبضون عليه، ويسقط على الأرض، دون أن يكون هذا قد حدث. هذه المواقع والأدوات المُشار إليها، تُنجز لك كل هذه الأعمال في دقائق معدودة، وهي أعمال كان البشر يستغرقون فيها ساعات طويلة، وربما أياما أو شهورا، وكل هذا مجانا، أو بمقابل زهيد، فتوفر لك الوقت، والجهد، والمال.
كوكب الشرق ضمن أعظم مئتي مطرب في التاريخ
نأتي إلى كوكب الشرق “أم كلثوم”، فقد تربعت على عرش الطرب الأصيل لما يزيد عن نصف قرن، وشدَت بأكثر من 320 أغنية، منها “الأطلال” أفضل أغنية تم إنتاجها في القرن العشرين (الجزيرة نت- الموسوعة)، وهي الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر والطبيب إبراهيم ناجي (1898- 1953م)، ولحنها رياض السنباطي (1906- 1981م). لعبت كوكب الشرق، المُلقبة بـ “سيدة الغناء العربي” دور البطولة، مع الغناء في ستة أفلام سينمائية (وداد، ودنانير، وسلامة، وثلاثتهم أفلام تاريخية، وعايدة، وفاطمة، ونشيد الأمل). صنفتها مجلة “رولينغ ستون” الأمريكية في يناير/ كانون الثاني في الترتيب رقم 61 ضمن أعظم مئتي مطرب على مر التاريخ، وقالت المجلة إنه لم يوجد لها نظير في الغرب، وإنها عكست روح العالم العربي.. هذا الترتيب أغضب الجمهور العربي، لاستحقاقها ترتيبا أعلى، رغم أنها سابقة في الترتيب لعدد من نجوم الغناء في الغرب مثل مايكل جاكسون، وآخرين.
كلمات رائعة وموسيقى ساحرة لأغاني أم كلثوم
بدأت “أم كلثوم” واسمها الأصلي فاطمة البلتاجي، شهرتها الفنية منذ عام 1923، وغنت عام 1924 “الصب تفضحه عيونه”، تأليف شاعر الشباب أحمد رامي (1892-1981م) الذي كتب لها كلمات عشرات الأغاني، وتلحين الشيخ أبو العلا محمد (1884- 1927)، وهو من رواد التلحين في زمانه. سيدة الغناء العربي، هي أكثر من غنت للحُب، مثل أغاني الحب كله، وحكم علينا الهوى، والحب كده، وثورة الشك، وفكروني، وفات الميعاد، وسيرة الحب، وحيرت قلبي معاك والقلب يعشق كل جميل، وغيرها مما يصعب حصره. كلمات وألحان أغاني “أم كلثوم”، كانت فائقة الروعة والسحر والجمال، لشُعراء عمالقة، مُبدعين، وملحنين عظماء لا يتسع المقام لذكرهم.
أمير الشعراء، ورامي، وأبو فراس الحمداني.. وموسيقى السنباطي والموجي
عودة لقضية “كوكب الشرق” وبعثها للحياة واستنساخ صوتها بالذكاء الاصطناعي، لتغني الأغنية التي لحنها الملحن عمرو مصطفى (افتكر لك أيه).. إذا قبلنا هذا العبث، بأصوات فنانين عظماء، فهل كلمات أغنية “افتكر لك إيه”، مع كل التقدير لمؤلفها، ترتقى لمستوى كلمات أي من أغانيها الـ 320؟ هل مؤلف هذه الأغنية بقامة أمير الشعراء أحمد شوقي أو أحمد رامي، أو أبو فراس الحمداني (عاش في القرن العشر الميلادي) صاحب قصيدة أراك عصي الدمع التي غنتها سيدة الغناء العربي؟ مع تقديرنا للملحن عمرو مصطفى، هل تناظر موسيقاه للأغنية التي يريد لأم كلثوم أن تغنيها، ألحان بليغ حمدي، أو محمد الموجي، أو داود حسني، أو الشيخ زكريا أحمد، أو رياض السنباطي، أو محمد القصبجي؟ أظن أن الإجابة بالنفي، واليوم أم كلثوم، وغدا وردة الجزائرية (1939- 2012م)، وليلى مراد (1918- 1995م)، وعبد الحليم حافظ (1929- 1977م). الواجب الأخلاقي- قبل القانوني- يستلزم عدم المُضي قُدما في هذا التشويه لفن أصيل من الزمن الجميل، نفتقده في زمننا الرديء.
نسأل الله السلامة لمصر المحروسة.