الصين: ميلاد نظام عالمي جديد من “عاصمة الحرب”!

رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ يحيي الرئيس القرغيزي سادير جاباروف خلال اجتماع في قاعة الشعب الكبرى في بكين

استغرق انتقال الصين من صديق للغرب، غير موثوق به، إلى مصدر تهديد محتمل، نحو عشر سنوات. بدأ الشقاق بينهما عقب إطلاق الرئيس شي جينبينغ مبادرة الحزام والطريق من كازاخستان عام 2023، بتمويل قيمته تريليون دولار. شهد الأسبوع الأخير، تحولات جذرية في العلاقات بين الصين والغرب، تسجل انطلاق حرب باردة، تنهي ما يعرف بــ” “النظام العالمي” الذي فرضته واشنطن، بعد الحرب العالمية الثانية.

نظمت بيجين أول قمة بمنطقة آسيا الوسطي، الأسبوع الماضي شاركت بها دول كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان. وعدت الصين دعم حلفائها بسخاء، وعينها على النفط والغاز ومزيد من حركة التجارة مع حلفائها الجدد. طلبت بيجين ممن جاؤوا يبحثون عن شريك موثوق به، أن يمتد التعاون- في ظل غياب روسيا الراعي الرسمي لدول المنطقة، وانشغالها بغزو أوكرانيا- إلى تحالف عسكري يضمن إبقاء الولايات المتحدة، و”جماعات الإرهاب” خارج المنطقة.

 

مسلمون بمرمي النيران

 

يدير الحزب الشيوعي حربا إعلامية شرسة ضد واشنطن، لدرجة تُشعر المتابعين بحرب وشيكة بين البلدين، وإن ظلت لغة الخطاب أكثر هدوءًا على المستوى الدبلوماسي، إلا أن إطلاق الصين ما يسمى بـ “الحرب على الإرهاب”، معروفة بواعثها، لمجموعة تتابع عن قرب ما ترتكبه بيجين من إبادة جماعية ضد قبائل الإيغور والقازاق والقرقيز المسلمين.

تدعم المجموعة موقف بيجين تجاه واشنطن، وتريد إبعادها عن بلدانهم، وفي نفس الوقت تبحث عن شريك ثقة في غياب روسيا. تسير المجموعة على نهج الدول العربية، تتضامن مع بيجين فيما تفعله ضد الأقلية المسلمة من الإيغور، لكن بينهم من يرفض المساس بقبائل مسلمة جذورها ممتدة داخلها، مثل القازاق والقرقيز، بما يدفعها للتدخل من أجل إطلاق سراح بعضهم، وكسب ثقة القبائل.

تحتاج دول آسيا الوسطى إلى شريك، يخرجها مما تركه حليف روسي احتلهم لقرنين، مما سبب انقسامات أهلية ودينية، تدفعهم للاحتماء بالخارج، ولكنها لا تثق بقدرة الصين على توفير ضمانات أمنية خارجية، تحميهم من التمرد الشعبي.
بعد التطورات في الحرب الروسية، أيدت كازاخستان أوكرانيا ضد روسيا، بينما تدخلت روسيا بقرغيزستان عسكريا لحماية النظام من انقلاب. تريد دول وسط آسيا تنمية التجارة مع الصين، وتخشى الانزلاق نحو تحالف عسكري، يسمح بدخول قواتها إلى أراضيهم، ومنها من يحلم بعودة دولة تركستان الكبرى الموحدة لتضمها مع الإيغور بدولة ذات لغة ودين وعرق واحد.

 

عاصمة الحرب

 

لم تكن مصادفة أن يدعو” شي” قادة الدول الخمس، لـ “شيآن”، عاصمة الصين القديمة، وإقليم شانشي. تعرف المدينة بأنها” عاصمة الحرب” منذ حقبة أسرة ” شين” التي أنقذت إمبراطورية الصين من التفكك أثناء حرب أمراء الأقاليم. انطلقت الثورة الشيوعية، من أرياف شانشي بقيادة قوات جيش التحرير من الفلاحين، في مسيرة حربية كبرى استمرت سنوات حتى دخلت بيجين أكتوبر 1949. قضى” شي” 10 سنوات فترة عقوبة بالمقاطعة، أثناء الثورة الثقافية، حيث تعرض للعنف مع والده، وعائلته مستقرة الجذور بالمدينة حتى الآن.

يتباهى ” شي” بأن المدينة المحصنة وسط الصين بين جبال ارتفاعها ما بين 2000 إلى 3700 متر وروافد نهري اليانجستي والأصفر، على بعد 1000 كيلو متر من العاصمة بيجين وسط البلاد، هي المكان الأكثر تحصينا في دولة تجهز نفسها للحرب، تملك 350 رأسا نوويا. تضم المدينة مركز قيادة الجيوش المشتركة النووية والصواريخ العابرة للقارات، وأنفاق عميقة شاسعة، لديها القدرة على إيواء مئات الآلاف في حال اندلاع حرب نووية. بدأ ” شي ” الحرب من شيآن التاريخية، على وباء كورونا عام 2020، مستلهما من تراثها الثقافي العميق، قصصا لمواجهة الطاعون والغزوات التي شنها” الغرباء” ضد الصين عبر القرون، وينسى أنه يخاطب حلفاء، من أحفاد الغزاة، لا يثق بهم ولا يأمنون له.

 

السجادة الحمراء

 

يعرض الإعلام الصيني صور الرؤساء على السجادة الحمراء بالقصر التاريخي، وولائم” شي” الفاخرة لضيوفه، بينما يتهكم على القاعة الضيقة التي اجتمع بها قادة الدول الصناعية السبع الكبرى، بمدينة هيروشيما باليابان. سخر إعلاميون من وضع الرئيس الأمريكي بايدن حقيبته تحت قدميه على الأرض، مثل الرئيس الفرنسي، والأكلات الخفيفة التي تعكس في رأيهم حالة الفقر، التي أصابت هذه الدول، بينما حلفاؤهم يتمتعون بنعيم الصين وصفقات رابحة ستبلغ 70 مليار دولار أسوة بعام 2022.

لغة الدبلوماسية التي ظهرت في هيروشيما، على لسان بايدن، بتأكيده رغبة الغرب في إذابة الجليد مع العلاقات مع الصين، ظهرت متناقضة، مع أطراف تدفع لحرب باردة تجاه بيجين. أعلنت أجهزة مخابرات بـ 5 دول، تضم أستراليا والولايات المتحدة ونيوزلندا وكندا والمملكة المتحدة، في تقارير منفصلة، أن الصين أصبحت مصدر تهديد رقم “1” للنظام العالمي. اتهم مسؤولو الأجهزة الأعضاء بتجمع” فايف آيز” Five Eyes، أن الصين تبدو عدوانية وتتجه للاستعداد لتصبح هجومية متفوقة عسكريا، في ظل قيادة حزب سلطوي ونظام ديكتاتوري.

 

صراع الأشرار

 

شارك مديرو الأجهزة، في تقرير صادم، عُرِضَ ببرنامج 60 دقيقة بتلفزيون أستراليا، الأسبوع الماضي. اتهم المسؤولون الصين علانية، بأنها توظف قدراتها المالية والتكنولوجيا لزعزعة الأمن العالمي، وتستخدم عصابات المخدرات والجريمة المنظمة، وغسيل الأموال، والتجسس والحروب السيبرانية ضد الدول والبنوك والشركات، لهدم المجتمعات الديمقراطية، وملاحقة المعارضين المقيمين لديهم، لإخافة كل من يفكر في مواجهة النظام الاستبدادي.

لم يأت الهجوم بين الطرفين مصادفة، فالحرب الاقتصادية، بين الولايات المتحدة والصين على أشدها، منذ عام 2018، مع ذلك حافظ الطرفان على زيادة حجمها لتبلغ أعلى مستوى على الاطلاق عام 2022، بقيمة 690 مليار دولار، وإن صحبتها الخلافات حول المقاطعة الروسية وقوانين مكافحة التجسس، وتطويق نقل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي.

تتجه القيود إلى منزلق يدفع الاقتصاد العالمي لمفترق طرق واتجاهين، الأول: بقيادة الولايات المتحدة، والآخر: تنسج الصين خيوطه، يضع كل منهما مواصفاته التكنولوجية وروابطه المالية وتحالفاته العسكرية، ويعملان على عزل حلفائهما عن الآخر. يتوقع أن يستغرق الفصل بين المسارين، عقدًا أو 15 عاما على الأكثر، لتظهر الآثار المدمرة للحرب الباردة، على دول مثلنا تحاول أن تعيش أنظمتها على حبال الصراع المشدودة بين الأقطاب، دون أن تدرك خطورة القفز بين الأشرار.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان