التحول من مواطن إلى لاجئ بجرة قلم

 

(1) من سوريا إلى السودان المأساة تتكرر

ما زالت سوريا تعتبر أضخم أزمة نزوح في العالم، أكثر من 13 مليون سوري (يمثلون تقريبا نصف عدد السكان) اضطروا إلى الفرار خارج البلاد أو النزوح داخل حدودها، ووصل عدد اللاجئين السوريين إلى حوالي 6 ملايين لاجئ، فروا من ويلات الحرب في وطنهم إلى دول الجوار.

من كان يتصور قبل عام 2011 أن يصل الحال بسوريا إلى هذا الحد؟ وكيف تحولت الانتفاضة السلمية ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد إلى حرب أهلية خلفت وراءها دمارا وخرابا ومئات الآلاف من القتلى والمصابين وملايين النازحين واللاجئين؟

التمسك بالسلطة والرغبة المحمومة في الاستمرار في الحكم تؤدي إلى خراب الأوطان وتعطي الفرصة للتدخلات الإقليمية والدولية، المواطن يدفع ثمن خطايا الحكام الذين يفضلون حكم وطن جريح ممزق بدلا من التخلي عن الحكم. أمثال هؤلاء الحكام يجردون أفراد شعبهم من المواطنة ويحولونهم إلى لاجئين، بجرة قلم!

وهناك سبب آخر لخراب أي بلد غير استبداد الحاكم ونرجسيته، وهو امتلاك أكثر من طائفة للسلاح أو انقسام الجيش الوطني وتشيعه، هذا يؤهل البلد للدخول في حرب أهلية مريرة حين تختلف أهداف ومصالح هذه الطوائف، حدث ذلك في سوريا وليبيا واليمن واليوم يتكرر الأمر في السودان، رغم أن هذا البلد الشقيق عانى طويلا من الحروب وذاق ويلاتها، لكن يبدو أن القائمين على حكمه لم يتعلموا من أخطاء الماضي ولا من تجارب الآخرين.

(2) من حماية الوطن إلى ترويع المواطن

منذ اندلاع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/ نيسان الماضي، فرّ ما يزيد على 100 ألف شخص من السودان إلى دول الجوار، ونزح أكثر من 350 ألف شخص داخل السودان، نتحدث عن عشرين يوما فقط من المعارك، فماذا يمكن أن يحدث لو امتد الأمر إلى شهور أو سنوات وانخرطت فيه مليشيا سودانية مسلحة أخرى موجودة بالفعل وتتحين لحظة المشاركة في الصراع للحصول على بعض الغنائم؟ حينذاك سيتحول السودان إلى ساحة قتال مفتوحة يشارك فيها الداني والقاصي سعيا وراء مكاسب وهيمنة ونفوذ واستغلال لموارد السودان وثرواته وموقعه المتميز علي البحر الأحمر.

يقف الشعب السوداني الحالم بالديمقراطية والحكم المدني، مغلوبا على أمره وهو يتابع الصراع بين قوتين كان واجبهما الأول حماية مصالح الوطن العليا وأمنه القومي وتأمين المواطن لا ترهيبه وترويعه، قوتين منوط بهما الحفاظ على مقدرات البلاد وتنميتها بعد سنوات طويلة من المعاناة، وحماية مكتسبات الثورة والحفاظ على بنود الاتفاق الإطاري ودعم انتقال السلطة إلى المدنيين وعودة القوات المسلحة إلى ثكناتها، لكن بدلا من ذلك تتقاتل فيما بينها لتهدر سلاحا كان يجب أن يصوب إلى صدور أعداء الوطن لا المدنيين الأبرياء الذين وضعهم حظهم العاثر بين مطرقة الجيش وسنديان الدعم السريع، لتزداد أحوال الشعب السوداني صعوبة وسوءا بسبب قصف محطات المياه والكهرباء وعجز المستشفيات السودانية عن توفير الخدمة الطبية لآلاف المصابين، أما القتلى فلقد تركت جثثهم في الشوارع مشهدا مأسويا وعبثيا وكأن هذه القوات مجموعة من الثيران الهائجة  تتصارع في محل خزف!!

(3) أزمة معقدة تبحث عن وسيط قادر

وافق قائد الجيش وقوات الدعم السريع على هدنة تبدأ من اليوم الخميس (4 مايو) وتستمر مدة 7 أيام بناءً على وساطة دولة جنوب السودان، التي أعلن وزير خارجيتها أن دولته تسعى لإقناع الطرفين بوقف القتال والجلوس إلى طاولة المفاوضات.

لكن يبدو أن الحل السريع للأزمة السودانية غير وارد، فمن الصعب على أيّ من الطرفين التنازل عن موقفه، الجيش السوداني لن يقبل بقاء قوات الدعم السريع خارج إطار الجيش النظامي، فلا يمكن لدولة أن تستقر أحوالها ولها جيشان، وقوات الدعم السريع لن تقبل أن تكون تحت إمرة الجيش وتتخلى عن المزايا التي وهبها لها الرئيس المخلوع عمر البشير، وكذلك مشروعها الطموح بأن تكون نواة لقوة عسكرية أفريقية عربية يُستعان بها عسكريا في عدد من دول الجوار كما حدث في ليبيا واليمن وجهورية أفريقيا الوسطى، فقوات الدعم السريع لها ميزانيتها الخاصة التي لا تخضع لرقابة الجيش ولا الدولة السودانية، وهذه الاستقلالية والموارد الضخمة التي تتمتع بها قوات الدعم السريع لا يمكن التنازل عنها بسهولة.

كل طرف يحارب حرب وجود، يتشابه تعقيد الوضع في السودان مع ما يحدث في أوكرانيا في بعض الأمور، فالرئيس الروسي لا يمكن أن يعود بخفي حنين من أوكرانيا والرئيس الأوكراني لا يمكن أن يتنازل طوعا عن الأرض الأوكرانية التي ضمتها روسيا. الوصول إلى مائدة المفاوضات في الحالة السودانية لن يكون إلا بتدخل قوة عظمى غير منحازة لطرف بعينه، لها قدرة تأثير في الطرفين، تطرح تصورا واقعيا يمكن التفاوض على أساسه، مع التعهد برعاية الاتفاق وإلزام الطرفين بتنفيذه.

الإدارة الأمريكية غير مؤهلة للقيام بهذا الدور فهي مشغولة بملفات خارجية ساخنة مع روسيا والصين وإيران، بالإضافة إلى الملفات الداخلية التي تهم الناخب الأمريكي وعلى رأسها التضخم والبطالة والوضع الاقتصادي، كما أنني لا أعتقد أن هناك دولة عربية يمكنها القيام بهذا الدور، ربما تكون الصين المرشحة رقم واحد للقيام بهذا الدور لما لها من علاقات طيبة ومصالح مشتركة مع مختلف الدول ذات التأثير في السودان، وهو دور يتوافق مع الصورة التي تريد الصين تصديرها إلى العالم عن نفسها، بأنها رجل إطفاء حرائق وصانعة سلام وليست شرطي العالم كما كانت تفعل أمريكا بفرض قوانينها الخاصة على العالم بأسره.

المؤلم أن العالم يعيش حالة توتر وقلق وترقب لأسباب عدة، والسودان مهما كان تأثيره في محيطه ستدخل مأساته في دائرة الاعتياد بعد حين، لتصبح مجرد خبر مثل كل الأخبار السيئة التي نتابعها كل يوم.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان