الانتخابات التركية وخطورة ترسيخ مبدأ أكون أو لا أكون

كلما اقترب موعد إجراء الاستحقاق الانتخابي في تركيا ارتفع حجم الاهتمام الغربي بكل شاردة وواردة في الشأن الداخلي التركي، حتى إن الكثير من المراكز البحثية ووسائل الإعلام الأوربية والأمريكية شكلت مجموعات عمل، تنحصر مهمتها الأساسية في متابعة تطورات الوضع على الأرض، وكتابة التقارير، وإعداد التحليلات، والترويج لنتائج استطلاعات الرأي المزيفة التي تقوم بإعدادها الشركات والمراكز التابعة لتحالف المعارضة التركية، مبشرة بهزيمة تحالف الشعب الذي يترأسه الرئيس أردوغان أمام تحالف الطاولة السداسية وحلفائها برئاسة كمال كليتشدار أوغلو.

انتخابات أم حلبة صراع؟

حتى أصبحت هذه الانتخابات هي في حقيقتها كأنها حلبة صراع ومواجهة، وأرض المعركة الأخيرة التي يمكن من خلالها حسم النزاع القائم منذ قرون بين الغرب بكل ما يحمله من عادات وتقاليد ترتكز على أسس علمانية مادية جافة لا تعترف بأي مبادئ ولا ثوابت دينية، وبين المبادئ الإنسانية والقيم الأخلاقية التي يرتكز عليها الدين الإسلامي ويلتزم المسلمون بتطبيقها.

القضاء تمامًا على هذه المنظومة وضمان انهيارها يرتكز، وفق الرؤية الغربية، على كسر شوكة الإسلام السياسي الذي تطبقه تركيا منذ عشرين عاما، والتصدي لأي محاولة تستهدف استمرار هذا النظام في تحقيق النجاحات، واحدة تلو أخرى، في مختلف القطاعات والميادين، خصوصا بعد أن تعدت هذه النجاحات الخط الأحمر، وتحولت إلى كابوس يؤرق مضاجع الغرب.

فالمسألة لم تعد مرتبطة بتحسين البنية التحتية أو إحداث طفرة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، حتى يمكن التهاون فيها أو غض الطرف عنها، بل تعدت ذلك إلى الدخول في مجالات محظورة تماما على كل من ينتهج منهج الإسلام، إنها مجالات الصناعات الدفاعية، وتطوير مختلف الأسلحة البرية والبحرية والجوية، وتنويع مصادر الطاقة، وهي أمور تسبب رعبًا للغرب، وتزيد مخاوفه إذا كانت الدولة القائمة بذلك تدين بالإسلام أو تنتمي إليه.

مواجهة الإسلام السياسي تمر عبر تدجين تركيا

فهذا من شأنه أن يمنح الأمل لباقي الشعوب الإسلامية، التي تخطى عددها مليار ونصف مليار مسلم، يمثلون من وجهة النظر الغربية قنبلة موقوتة تم العمل على نزع فتيل خطورتها وإخضاعها منذ قرون، وهو الأمر الذي يجب أن يستمر حتى قيام الساعة! فلا يمكن السماح بتحولهم إلى مارد يسحق الغرب وحضارته الزائفة، سعيًا وراء أمجاد فقدوها، ومكانة يتوقون إلى استعادتها.

ومن هنا فإن العمل على تدجين تركيا مرة أخرى، واستعادتها بعد أن شردت بعيدا عن حظيرة التبعية هو أمر لا نقاش فيه، ولا مناص منه، بل هو مسألة حياة أو موت، فالإطاحة بحزب العدالة والتنمية، ووضع كلمة النهاية لرحلة الرئيس أردوغان في الحكم، هو ما يضمن وقف قاطرة التقدم التركية، والانسحاب من اللعب على الساحة السياسية الخارجية، والعودة بتركيا إلى دورها القديم، لتكون مجرد تابع للغرب منفذا لتعليماته، قائما على حراسة أمنه، وأداة من أدواته التي يستخدمها كيفما يشاء وقت ما يشاء.

لهذا يدعم الغرب بكل قوة تحالف المعارضة

وهذه النتيجة يمكن الوصول إليها من خلال الدعم المطلق لجبهة المعارضة، التي تتبنى سياسات وأيدولوجيات تتوافق في مجملها مع الغرب، وقيمه، ومبادئه المادية البحتة، خصوصا أن لديها الاستعداد المطلق لتنفيذ أوامره، وتحقيق كافة طلباته، وتلبية رغباته حتى وإن كانت تتعارض مع المصالح الوطنية التركية.

وإذا لم تنجح المعارضة فعلى الغرب أن ينسى تماما أمر تركيا، وإمكانية إعادتها مرة أخرى إلى حاضنته، بل والبدء في الاستعداد لمواجهة صحوة العالم الإسلامي، والتصدي لموجة الأحلام التي سوف تداعب دون شك خيال العديد من شعوبه في تحقيق نفس المكانة التي وصلت إليها تركيا تحت حكم العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، الذي نجح بامتياز في تحقيق مكانة سياسية ودبلوماسية رفيعة لبلاده على الساحة الدولية، فأصبحت لها كلمة يسمعها القريب والبعيد، وذلك بعد أن كثف جهوده للعمل مع شركاء دوليين متنوعين وفق ما تطلبه أولويات البلاد ومصالحها الوطنية، دون الالتفات إلى ميراث علاقاتها مع الغرب، الذي أضرها أكثر مما أفادها.

المعارضة أداة طيعة لتنفيذ مخططات الغرب

وقد تلقفت جبهة المعارضة التركية هذا الدعم الغربي بكل امتنان، وتعمل من خلاله على تقديم نفسها للشعب على أنها بديل يتناسب مع نظرة الغرب لتركيا، ساعية إلى اجتذاب العديد من شرائح المجتمع إلى جانبها، خاصة تلك التي تنتهج العلمانية والكمالية منهجا لها، وترغب في العودة إلى الماضي، والعمل أداة للغرب في أزماته وصراعاته مقابل الانضمام لمنظومته، والانكفاء تحت عباءته.

إذ تزايدت التصريحات التي أدلى بها مؤخرا رؤساء هذه الأحزاب، وحلفاؤهم من خارج الطاولة، وهي التصريحات التي تصب في إطار واحد، وتحركها رغبة وحيدة، هي ضرورة العودة بتركيا إلى ما قبل عشرين عاما، وهدم كل ما تمت إقامته وبناؤه سواء كان سياسيا أو اقتصاديا، داخليا أو خارجيا، مهما كانت أهميته القومية، أو خدمته لمصلحة الشعب، فالمهم هو إرضاء الغرب أولا، ضاربين عرض الحائط بالمثل القائل: “إذا ابُليتم فاستتروا”.

أسلوب عمل المعارضة، وسعيها لتصدير انتصار وهمي على منافسيها عبر وسائل إعلامها وإعلام الغرب، بل والبدء من الآن في التشكيك في نزاهة فرز الهيئة العليا للانتخابات لصناديق الاقتراع، وكأنهم يسبقون النتيجة التي يتوقعونها، كل ذلك أدى إلى ظهور حالة من الاستقطاب الحاد بين أبناء المجتمع التركي، الذي تحول إلى طوائف وجبهات عرقية وأيديولوجية، تقف كل منها متحفزة في مواجهة الأخرى، انتظارا للحظة اندلاع الشرارة لتنقض إحداهما على الأخرى، فإما أن نكون نحن، وإما أن نهدم المعبد على رؤوس الجميع.

خطورة لعبة المعارضة على السلم الاجتماعي

الغريب في الأمر أن هذه المعارضة التي تشحذ همم مؤيديها، بالوعود تارة، وبالتشكيك في نزاهة الهيئة العليا للانتخابات تارة أخرى، وتسخر من إنجازات العدالة والتنمية، وما ينتهجه من سياسات على الصعيدين الداخلي والخارجي لم تقم بتقديم أي حلول عملية، أو توضيح الخطوات التي ستنتهجها بعد فوزها في الانتخابات لتحسين الأوضاع التي تنتقدها، وكيفية إنهاء هذه الأزمات، وآلية تحقيق الرفاهية التي تعد بها الشعب عدا مسألة اللجوء إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، والمؤسسات المالية العالمية الأخرى، كما يعد كليتشدار أوغلو مؤيديه.

وهو ما يعني أن هذه اللعبة التي تمارسها المعارضة بوعي أو بدونه، تمثل خطورة حقيقية على السلم الاجتماعي، وتهدد في حال التمادي فيها إلى حدوث نوع من المواجهات بين من يدعم توجه المعارضة الراغب بشدة في العودة إلى الحاضنة الأوربية بكل ما تحمله من مساوئ، وبين من يقف إلى جانب الدولة التركية الجديدة، التي انفتحت على العالم أجمع، وأصبحت تتمتع بعلاقات متوازنة مع دوله، الأمر الذي حقق لها مكانة إقليمية ودولية متميزة، ومنحها القوة والقدرة على تخطي الصعاب، والصمود في وجه كافة العقبات التي سعت للحد من انطلاقها واستعادتها لأمجادها القديمة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان