حديـث السقوط.. وكوارث اتحاد الشاغلين

عندما تصبح العمارة على وشك السقوط، من الطبيعي أن يكون حديث السقوط وعلامات السقوط، هما الحديث الشائع والأهم بين كل سكان العمارة، فلا يمكن لأي عمارة أو مبنى من أي نوع أن يسقط دون مقدمات ودون علامات مسبقة، الأمر البديهي هو أن المقدمات تؤدي إلى النتائج، قد يتعلق الأمر بسقوط قطع خرسانية من الأسقف، قد يتعلق بتشققات في الحوائط، قد يتعلق بمليمترات من الميول، قد يتعلق بهبوط أرضي أو بفالق جيولوجي، وأشياء أخرى كثيرة من بينها العوامل المفاجئة، كالزلازل والانفجارات التي تسبقها مقدمات رصد علمية في الأَولى، وأمنية في الثانية، مما يعني أن هناك مقدمات وعلامات أيضًا لهذه وتلك.

قصص الانهيار والسقوط في العالم العربي من المحيط إلى الخليج متشابهة، التربة كما هو واضح واحدة، مواد البناء كذلك، البناؤون من أصول وجذور متقاربة، أكواد الإنشاء متطابقة، الأهم هو أن أسباب الانهيار أيضًا واحدة، علامات السقوط من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب لا تتغير، على الرغم من ذلك يتساقط البناء، الواحد تلو الآخر، دون أن يتعظ المُلاك ولا حتى بعض المستأجرين، الدروس المستفادة لم تخضع أبدًا لأي دراسات، لذا أصبح الأمر طبيعيًّا، اعتدنا مثل هذه الأنباء المفزعة في بداياتها، قبل أن تتحول إلى روتين يتصدر النشرات، إن لم يستحوذ عليها.

قبل الانهيار

القضية الأساسية هنا هي كيفية تدارك الأمر قبل انهيار هذه العمارة أو ذلك المبنى حتى نخرج بأقل قدر من الخسائر، ليت الأمر يتوقف على خسائر خرسانية فقط دون خسائر بشرية، ليته ينحسر في خسارة هذه العمارة فقط دون الإضرار بالعمارات المجاورة، ليتنا نستطيع إخراج ما تيسر من أثاث ومقتنيات قبل السقوط، ليت كل فرد من قاطني العمارة فعل ما بوسعه لتدارك الأمر حتى لا نلقي فيما بعد بالاتهامات على بعضنا على بعض، ليت مجلس إدارة العمارة أو اتحاد الشاغلين يدرك أن المسؤولية أمام القانون سوف تكون عسيرة إذا لم يكونوا على مستوى الحدث.

القفز من المركب ليس حلًّا، ولا يتوافق أبدا مع صحيح القانون والضمير، إلقاء الاتهامات على بعضنا ليس حلًّا، ولا يتوافق أبدًا مع صحيح القيم والأخلاق، لا بد من التصدي لرئيس اتحاد الشاغلين الذي اعتاد إبقاء الوضع على ما هو عليه من جهة، ومن جهة أخرى خوفه حال السقوط من المساءلة نتيجة إهماله للتقارير الهندسية التي صدرت مبكرًا في هذا الشأن وحذرت من الوصول إلى هذه النتيجة، لا بد من المصارحة والمكاشفة، الأمر لم يعد يحتمل وضع الرؤوس في الرمال، صافرات الإنذار يسمعها الداني والقاصي، لم نعد في حاجة إلى تقارير، أصبحنا نرى ميول العمارة وتشققاتها بالعين المجردة.

الأكثر وضوحًا هو هذه المشاجرات جارية على مدار الساعة، ليس بين سكان العمارة فحسب، بل بين سكان العمارات الأخرى أيضًا، كلهم يخشون المصير نفسه، الجميع يعيشون في رعب، جميعهم يتعاركون، أصبحوا شيعًا وأحزابًا، حالة الاستقطاب أصبحت شائعة، حالة الترصد والتنمر ظاهرة على الوجوه، لم يعد أحد يطيق الآخر، لا أحد يستمع إلى أحد، التشققات تزداد اتساعًا، مليمترات الميول أصبحت سنتيمترات، لا أحد ينتبه، الملفات القديمة فرضت نفسها، البلاغات أصبحت بأثر رجعي، رئيس اتحاد الشاغلين نجح في إشغال السكان بعضهم ببعض بعيدًا عن الكارثة الأساسية.

العمارة المجتمع

يبدو أن كتب التاريخ لم يعد يقرؤها أحد في زماننا هذا، زمن الانشغال بلقمة العيش لدى العامة، زمن الجهل والتكبر لدى الخاصة، هذه الكتب التي تحمل الكثير من حكايا انهيار العمارات، الكثير من انهيار الأبنية التي شيدت بمتانة من حديد فقط، المشيدون تجاهلوا عوامل أخرى كثيرة، في مقدمتها صلابة الأرض، صلاحية مواد البناء، خبرة البنائين، اعتمدوا على الحديد فقط، اعتقدوا أن الحديد هو كل شيء، إنه السفه بعينه، إنه الصلف والغرور، هو عمى البصر والبصيرة.

الغريب في الأمر هو هذه الحالة من اللامبالاة التي أصبحت شائعة بين معظم سكان هذه العمارات، البعض يتعايش مع الوضع اعتياديًّا على اعتبار أنه ليس في الإمكان إلا ما كان، البعض الآخر يخشى بطش اتحاد الشاغلين، وبعض ثالث نشأ وشب على أن يكون سلبيًّا لا ينطق حتى وإن اقتربت الكارثة من مخدعه، في كل الأحوال سوف ترى -وأنت تراقب- الموت محدقًا بالجميع، أيضًا سوف تسمع الهمز واللمز، الجميع يتهامسون، ذلك أقصى ما يمكن أن يفعلوه.

العمارة في حقيقة الأمر نموذج لمجتمع متكامل، تضم جميع الأطياف، لا يجوز أبدًا إهمال ما بدا من عيوب في البنيان يراها السكان جيدًا من قريب، فما بالنا إذا كان الغرباء يرونها من بعيد، التحذيرات أصبحت من الداخل والخارج، من القاطنين والمراقبين، بموازاة ذلك سوف ترى عمليات إلهاء ممنهجة يقودها اتحاد الشاغلين، بالشحناء والبغضاء أحيانًا، بحفلات المجون وكتائب التغييب أحيانًا أخرى.

الغريب في الأمر هو حالة عمى الأولويات لدى هذا الاتحاد، تركوا العمارة بسكانها وراحوا يشيدون عمارات أخرى، البعض لا يضع هذا السلوك في خانة العمى أو اللامبالاة، آو حتى فقدان بوصلة الأولويات، يرونه مؤامرة متكاملة الأركان، يرونه تخريبًا متعمدًا، ليس في الممتلكات فحسب، بل في الأرواح أيضًا، لحساب من يجري كل ذلك؟

كوارث اتحاد الشاغلين تعدت الإهمال إلى إشعال الحرائق، تعدت حرائق الفتن والوقيعة إلى حرائق حقيقية، لم تعد هناك عمارة بمنأى عن النيران، بدا أننا أصبحنا أمام اتحاد كبير وخفي لا يُرى بالعين المجردة، بالتأكيد ليس اتحادًا محليًّا أو وطنيًّا، إلا أن لديه كل الصلاحيات كما هو واضح، لديه كل الإمكانيات، وبأيدٍ محلية للأسف!! إنها أكثر علامات السقوط دمارًا وفاعلية، لذا سوف يتسع فضاء هذا النوع من الحديث مستقبلا، حديث السقوط، إلا إذا عاد اتحاد الشاغلين إلى رشده وتدارك الموقف، لكن يطرح السؤال نفسه: هل ما زال أمر الترميم ممكنًا لمجرد عقد اجتماعات لبعض السكان، أو حوارات عقيمة بين اتحاد الشاغلين، أم أنه قد فات الأوان؟ مجرد سؤال للمناقشة!!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان