لماذا لا يسمع الصحفيون صوت العلم؟!!

أدركت منذ بداية التسعينيات أن الصحافة المطبوعة سوف تتعرض لأزمة تهدد وجودها، وشغلت نفسي بالبحث عن حلول لهذه الأزمة، فالصحافة من أهم مصادر القوة الإعلامية للأمة.
كنت قد عدت من دراستي بجامعة ليستر في بريطانيا، وحصلت على الدكتوراه، وكنت أشعر بالمسؤولية عن الصحافة، وأرى أن من حق الشعب أن تكون له صحافة حرة تعبر عنه، وتوفر له المعرفة، وتكون الوسيلة التي يستخدمها لتحقيق آماله في الحرية والديمقراطية والاستقلال الشامل.
لذلك كافحت لبناء استراتيجية لإنقاذ الصحافة المطبوعة تقوم على أفكار جديدة من أهمها أن حياة الصحف ترتبط بتطوير وظائفها، لكي يشعر الجمهور بأنها تقدم له مضمونا متميزا لا يمكن أن يجده في وسائل الإعلام الأخرى؛ ولكي تتمكن الصحافة من تطوير وظائفها يجب أن يقوم الباحثون في الجامعات بدراسة نقدية للتجربة التاريخية للصحافة في الوطن العربي. فهذه الدراسة يمكن أن تضيء الطريق للمستقبل.
من أهم الأفكار التي بنيت عليها أهدافي طوال مسيرتي العلمية أن العلم يجب أن يقود عملية تغيير الواقع، وبناء المستقبل، وأننا لا يجوز أن تضيع أعمارنا في البحث العلمي؛ لتوضع نتائج دراساتنا على أرفف المكتبات في الجامعات، أو تنشر في مجلات علمية لا يقرؤها سوى الباحثين في المجال العلمي.
إن وظيفة العلماء ليست إنتاج النظريات فقط، بل يجب أن يخرجوا إلى الحياة العامة ليقوموا بتطبيق نظرياتهم، وقيادة الشعوب لتغيير واقعها، فالكثير من الأفكار الرائعة تموت داخل أسوار الجامعات لأن النظم الحاكمة تتجاهل العلم، وتكره العلماء، ولا تقرّب منهم سوى من يرتضي استخدام علمه لتحقيق أهداف السلطة في السيطرة على الجماهير، ومعظم الذين قرّبتهم السلطات كانوا ينافقون للحكام، ولم يصونوا كرامة العلم.
لكن ماذا أفعل؟! كنت أقرأ الواقع جيدا، وأرفض تقديم التنازلات التي تفرضها السلطات على من يريد أن يتبوأ المناصب، وتفتح له أبواب الشهرة والنشر. كنت صاحب رسالة، وأريد أن يستمع المجتمع إلى صوت العلم دون أن يضطر العلماء إلى التخلي عن كرامتهم وحريتهم الأكاديمية واحترامهم لدورهم ووظيفتهم الحضارية؛ ولقد حرصت طوال حياتي على رفض الحلول الوسط والمهادنة والنفاق.
لقد كنت بدويا عنيدا، جاء من الصحراء، وتعلمت من شيوخ العرب القيم والأخلاق المرتبطة بالأصالة، وأن العربي يموت كريما عزيزا، لأنه يرفض الضيم والذل والخضوع، كما تعلمت من الإسلام أن أكون عبدا لله وحده.. لذلك وجدت كل الأبواب مغلقة في وجهي!
قيادات الصحافة لا تسمع صوت العلم!
لكنني حاولت أن أقدم رؤيتي العلمية لإنقاذ الصحافة، وأن أخرج بتلك الرؤية من مدرجات كلية الإعلام إلى المؤسسات الصحفية.
لذلك قدمت جانبا من هذه الرؤية في ندوة حضرها بعض القيادات الصحفية، وبدأت دراستي بالتحذير من انهيار الصحافة المطبوعة، وأن ذلك يشكل خطرا على المجتمع، فاختفاء الصحافة يعني سقوط كل المؤسسات الديمقراطية المرتبطة بها، لذلك يجب أن ندير مناقشة حرة يشارك فيها الصحفيون وعلماء الصحافة للتوصل إلى حلول جديدة للأزمة قبل أن تتزايد حدتها.
وركزت في دراستي على ضرورة تقديم قراءة جديدة ومتعمقة للتجربة التاريخية للصحافة العربية؛ يمكن أن نطور من خلالها نظرية صحافة الكفاح الوطني التي تشبع احتياجات الجمهور لمضمون يساهم في زيادة وعيه بهويته وقدرته على تحقيق الاستقلال الشامل، ومقاومة الاستعمار الثقافي وكسر التبعية للغرب، وقدمت تجربة مصطفى كامل وجريدة اللواء نموذجًا لصحافة الكفاح الوطني.
لكن ردّ القيادات الصحفية على الدراسة كان غاضبا، وتعامل بعضهم مع الدراسة بقدر من السخرية، في حين نفى بعضهم أن تكون الصحافة تواجه أزمة، واتهمني بعضهم بأنني عدت من بريطانيا لأقود ثورة في الصحافة، وأنني أتصور نفسي مصطفى كامل، وأنني لم أدرك بعد أن الاستقلال قد تحقق، وتم جلاء الإنجليز عن مصر، وأن كل شيء على ما يرام، والصحافة المصرية تعيش فترة ازدهار وحرية لم تشهدها من قبل.. وقال أحدهم بسخرية: إن الأزمة تكمن في بعض العقول!!
حاولت أن ألتزم بالهدوء، وبأدب العلم في الرد على الانتقادات، لكنني طالبت الجميع بالاستماع إلى صوت العلم، قبل أن يأتي يوم يعجز فيه الجميع عن مواجهة الكارثة.
لذلك كان يجب أن أرحل!!
واجهت بعدها الكثير من الاضطهاد والتهديدات، واكتشفت أن طريقي أصبح مسدودا، حتى إنه تم التضييق علي في المقررات التي أدرسها في الكلية، بالرغم من أن الطلاب كانوا يتفاعلون معي، ويرون أنني أعدهم للمستقبل برؤية علمية جديدة، وأنني أقدم لهم مضمونا علميا متميزا.
لكن يبدو أن ذلك كان من العوامل التي أدت إلى تزايد التهديدات التي جاءت من جهات مختلفة، وتم حرماني من التدريس في الجامعات الإقليمية، فأدركت أن الحديث عن الحرية ثقيل على قلوب الطغاة، وأنني يجب أن اختار بين الصمت والرحيل.
لكنني كنت طوال السنوات التي ابتعدت فيها عن مصر أطور نظريات واستراتيجيات جديدة لتجديد شباب الصحافة المطبوعة، وتطوير وظائفها، ونشرت هذه النظريات في كتبي. لكن الآن يجب أن نطرح السؤال: ماذا لو استمعت المؤسسات الصحفية إلى صوت العلم في الوقت المناسب؟!
إن الجميع يرون الآن بأم أعينهم أزمة الصحافة، وكيف تم إغلاق الصحف المسائية مقدمة لإغلاق المزيد من الصحف التي لم تستطع أن تطور وظائفها، وتدافع عن حريتها، وتقوم بوظيفتها في الوفاء بحق جماهيرها في المعرفة.
إن الأزمة الآن واضحة للجميع، فهل نبدأ مرحلة جديدة من الكفاح لإنقاذ الصحافة المطبوعة لتقوم بدورها في قيادة الجماهير لتحقيق الاستقلال الشامل، وهل يمكن أن يسمع الصحفيون الآن صوت العلم؟!!