في الصين الشيوعية.. احتجاجات العمال لها مذاق آخر!

في مقاطعة قويتشو جنوبي الصين، حيث معدلات الفقر المرتفعة تدفع كبار السن إلى ممارسة أعمال شاقة حتى نهاية العمر

 

تباهى مسافر من تايوان باستمتاعه برحلة رائعة على شواطئ وأرخبيل هونان، والمناطق الأثرية جنوبي الصين، في إجازة عيد العمال. تجول الرجل بين صينيين توافدوا بالملايين، بحثا عن الشمس المشرقة، وأجواء مدارية وسماء صافية، بعيدا عن برودة مدن الشمال وتلوث الوسط والشرق.

تروّج الحكومة لسفر 250 مليون مواطن بالقطارات والطائرات، لقضاء إجازة مدفوعة الأجر داخل البلاد، تمنحها الحكومة للمواطنين، احتفاء بمناسبة عيد العمال، في وقت اندلعت فيه مظاهرات ضد الغلاء وتوحش التضخم، ورفع سن التقاعد، وخصخصة الشركات العامة بعواصم العالم. شهدت الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا وتشيلي وسيريلانكا وإندونيسيا أعنف المظاهرات. ركز الإعلام الصيني على مظاهرات عمال اليابان ضد الحكومة لرفعها مخصصات الدفاع، بدلا من زيادة النفقات إلى الاستثمار بالرعاية الاجتماعية.

حريق مستشفى بيجين

سألت صديقي التايواني على تويتر: واضح أنكم تعشقون الصين، فلماذا تزايد المعارضون للعودة إلى بلدهم الأم، فتكسبون رعاية وحماية دولة كبرى في طريقها إلى سيادة العالم؟ فاجأني الرجل بإرسال رابط لفيديو يصور حريق مستشفى تشانغفينغ وسط بيجين نهاية الشهر الماضي، احترق فيه 16 امرأة و13 رجلا، فشلوا في الهرب من نيران استمرت 13 ساعة بأرجاء المكان. نشرت أجهزة الإعلام الرسمية خبر الحريق بعد وقوعه بيومين، ولم تذكر عدد القتلى ولا أسماء المصابين، واكتفت بنبأ اعتقال 12 شخصا، مديري المستشفى وشركة المقاولات، لاكتشاف أخطاء أدت إلى اشتعال الحريق بمبنى أحيط بأسوار حديدية، تمنع تشغيل أبواب الطوارئ وسدت منافذ الهرب من الخارج، تسببت في رفع عدد الضحايا، متوسط أعمارهم 71.5 عاما.

كتب الرجل: لدينا في “جمهورية الصين” تايوان أحسن نظام صحي عالميا، وأفضل تأمين للتقاعد ومن أعلى الدول دخلا. أستطيع السفر إلى الصين الأم وأي مكان طوال الوقت، دون قيود حكومية أو الوقوف لأشهر أمام أبواب السفارات، فهل تريدني أن أتنازل عن كل ذلك للعيش تحت قبضة نظام استبدادي؟!

حديث الحرب والسلام

عكست كلمات المسافر إلى الوطن الأم، البون الشاسع بين نظرة الشباب على الشاطئين، بينما يخشى البعض حربا عالمية، ستبدأ من هناك. يجري التبادل الاقتصادي والسياحي بينهما على قدم وساق. يعتز الكيان الأصغر بحرية أفراده، الذين مكّنوا جزيرة صغيرة تعداد سكانها 24 مليون نسمة، من أن تصبح أهم مركز للصناعات التكنولوجية الفائقة، وبدونها تتحول 90% من أجهزة الكمبيوتر والآلات في العالم إلى قطع خردة، بينما يكشف تكرار حرائق المستشفيات العامة عن نظام استبدادي غير مؤهل لوقف انحدار دولة شابة إلى شيخوخة مبكرة. أججت مظاهرات “الشعر الأبيض” المحتجين على تراجع مخصصات التأمين الصحي وزيادة سنوات العمل قبل التقاعد، وتراجع أجور العمال وحقوقهم.

أعلن المكتب الوطني للإحصاء، في يناير/كانون الثاني الماضي، تزايد معدلات البطالة بين الشباب في سن 16-24 عاما، بعدد 11 مليون عاطل عن العمل في المدن والبلديات، بنسبة 19.6% من قوة العمل، وهي ثاني أعلى مستوى مسجَّل في الصين منذ قيام الحكم الشيوعي عام 1949.

يتعرض الشباب لمزيد من البطالة، مع تخرّج 11.6 مليون جامعي سنويا، يبحثون عن وظائف في سوق شديدة التنافسية، بينما تدعو تايوان منذ 3 سنوات إلى استقبال 400 ألف مهاجر وأجنبي، للعمل ومنحهم الجنسية. يرفض الحزب الشيوعي السماح للشباب بالعمل في تايوان، لأسباب سياسية، ويدفع العمالة الأجنبية داخله إلى الخروج، بتأجيجه مشاعر عداء للأجانب، متحصنة بهوية ثقافية وعرقية، ويقمع أقليات عرقية مثل الإيغور والقازاق ومنغوليا والتبت، والعمال المسرَّحين من الشركات الحكومية.

جيوش “الروبوت”

يدفع الرئيس شي جين بينغ إلى تصنيع المزيد من “جيوش الروبوت” للعمل بالمصانع، التي فاقت 50% من روبوتات العالم، وأدت إلى تزايد مشكلات التكلفة والأداء، ولم تساعد على توفير عمالة رخيصة، أو خروج صناعات كثيفة العمالة إلى فيتنام وبنغلاديش وإندونيسيا.

يدرك كثير من الشباب وأصحاب “الشعر الأبيض” أن شعارات “شي” بربط الازدهار والرفاهية بخططه لتحقيق الاشتراكية، تحولت إلى وعود ورقية وسط مجتمع يتجه نحو رأسمالية متوحشة، تضع أكثر من ثلثي الثروة في يد نخبة لا تزيد على 10% من السكان، وأن سعيه إلى “تجديد الأمة الصينية” يستهدف تأطير الهوية الثقافية والعرقية، بينما الدولة تعاني انخفاض معدلات النمو، وعدم المساواة والشيخوخة المبكرة، وديونا بلغت نحو 18 تريليون دولار عام 2022، منها 10 تريليونات “ديون مُخفاة” بين المقاطعات والدولة.

تدفع الديون إلى عدم قدرة الحكومة على تقديم الخدمات الأساسية وعلى رأسها دعم الفقراء، وخفض مخصصات التأمين الصحي، بما يعادل 70% شهريا لكبار السن، مع استنزاف موارد صناديقه أثناء محاربة وباء كوفيد-19، وتخطط لرفع سن التقاعد عام 2035، في وقت سيصبح فيه 400 مليون شخص بسن الشيخوخة سيمثلون 30% من السكان. بلغ العجز المالي في ميزانية 2023 نحو 3.88 تريليونات يوان (566 مليار دولار) بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي، ويُتوقع زيادته إلى 7% في مارس/آذار المقبل.

سخرية الشباب

تراجُع المساواة بين المواطنين أصبح حديثا يوميا بين الناس، ومحط أنظار مراكز البحوث في الصين وخارجها، حيث تدفع إلى هشاشة النظام الاجتماعي، التي تظهر آثارها في زيادة معدلات الفساد والجريمة، والاحتجاجات المتكررة من فئات وأعمار مختلفة، تعترض على تراجع حقوق العمال الرسميين وغيرهم الذين يُقدَّر عددهم بـ200 مليون عامل، قادمين من الريف بحثا عن فرصة عمل، خارج نظام “الهوكو”، ينشدون الاستقرار والعمل بطرق قانونية تحفظ لأبنائهم نظاما تعليميا جيدا، ورعاية اجتماعية وطبية دائمة.

أظهرت دراسة لبرنامج جامعة “ستانفورد” للتعليم الريفي -تتعاون مع جامعات صينية- تراجع المستوى التعليمي لطلاب الصين عام 2015، عن مستوى 50 دولة منها 6 دول عربية، بما يحرمهم من الانتقال إلى سوق عمل أكثر تنافسية وتقدّما، وأن عدم المساواة زادت حدته منذ 10 سنوات، بين أجور العاملين ونظام التعليم والعلاج الطبي والمعاش التقاعدي في المدن والقرى.

الفجوة المتسعة دفعت شباب الخريجين إلى التهكم على دعوة للرئيس أطلقها الأسبوع الماضي، لمواجهة البطالة، بحثّه الخريجين على التوجه إلى العمل في الريف بوصفه أكثر وفرة وفائدة للخريجين والدولة. يدرك الخريجون أن رحلة العودة إلى الريف ستسقطهم في براثن الفقر حيث لا مساواة، وتحرمهم من بعض الفوائد المضمونة في المدن.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان