أحرار هونغ كونغ في ذكرى مجزرة تيانانمين

قد يهون العمر إلا لحظة، وقد تهون الأرض إلا موضعا، كلمات هائمة لأمير الشعراء أحمد شوقي، يؤمن بها عشاق الحياة والحرية. لا يقبل رقة الكلمات أصحاب القلوب القاسية وأنظمة استبدادية تتآمر بكتابة التاريخ وفق أهوائها، فتهيل التراب على رموز وطنية، وأماكن محفورة في ذاكرة الأمم، أملا في التقليل من شأنها ودفن معالمها.
تجسد حديقة “فيكتوريا بارك”، وسط مدينة هونغ كونغ هذه الأيام، مشهدا حيّا على كيفية تزييف النظام أحداثا تابعها العالم عن قرب، دون خجل! ظلت الحديقة ملتقى مئات الآلاف من سكان الجزيرة، الذين يتجمعون سنويا للمطالبة بحرية التعبير، بإضاءة شمعة في ذكرى مجزرة دعاة الإصلاح، الذين سحقهم الجيش الصيني بالميدان السماوي “تيانانمين” وسط العاصمة بيجين في 4 يونيو/حزيران 1989.
يعتبر سكان هونغ كونغ الذكرى واحدة من أهم تواريخ تقويم منظمات المجتمع المدني ودعاة الديمقراطية في الصين والعالم. لم يقطع عودة الجزيرة إلى الصين، منذ عام 1997، هذا التقليد، الذي ظل يرعاه تحالف هونغ كونغ لدعم الحركات الديمقراطية، لمدة 30 عاما، بدعم من نقابات الصحفيين والأحزاب، والطوائف العمالية والدينية.
أيقونة الحرية
استمرت التظاهرات السلمية في ذكرى المذبحة سنويا حتى عام 2019، عندما بدأت الحكومة الصينية سعيها الدؤوب لمحو مجزرة تيانانمين من الذاكرة، بعدما أزالت آثارها من الكتب، وأخفت الصحف والوثائق، ومنعت الهمس حولها بين المواطنين.
يكافح مواطنو هونغ كونغ لتذكير الناس بالمذبحة، وإظهار الحزن على الضحايا، بينما تخنق السلطات مساحات المعارضة، في جزيرة كانت ذات يوم نابضة بالحياة، متمتعة بحق التظاهر وحرية التعبير. بدأ التضييق بتغيير مفاجئ في اتفاق عودة هونغ كونغ إلى الصين المُوقع مع سكان الجزيرة “دولة واحدة ونظامان” يقر تبعية الجزيرة للوطن، واستمرار العيش في ظل نظامها الديمقراطي، وآخر يديره الحزب الشيوعي في الداخل. يقضي التعهد باستمرار النظامين حتى عام 2047، لتجري انتخابات تهيئ للطرفين اختيار مسار واحد للمستقبل.
تغيير قسري
تغيرت سياسات الحزب الحاكم، الذي أراد زعيمه شي جين بينغ أن يحتفل عام 2021، بدمج كل من جزيرتي هونغ كونغ وتايوان للوطن الأم قسرا، في إطار التزام حزبي بتجديده شباب الأمة. اعتمد خطاب الحزب على التحولات السلمية التي تطمئن الأجيال الجديدة، بدمجها في مشروع “ازدهار الصين” و”التجديد العظيم للأمة” يتوقع تنفيذه بحلول عام 2049، بمناسبة مرور 100 عام على إعلان الحكم الشيوعي.
تعجل شي جين بينغ تغيير النظام السياسي في هونغ كونغ، بوضع المجلس التشريعي للجزيرة تحت وصاية الحزب الشيوعي عام 2019، وعندما اعترضت الأحزاب والقوى الوطنية، أصدر قانون “الأمن القومي” عام 2020، واعتبر أي رأي ونشاط مخالف لإرادة السلطة، من أعمال الخيانة العظمي، توجب سجن صاحبه عشرات السنين، وملاحقة المعارضين أمنيا، والتحفظ على أموالهم، وتعاملاتهم مع البنوك.
“ضجيج رخيص”
يستغرب الناس من اعتبار حملهم للشموع والوقوف داخل حديقة “فيكتوريا” بمثابة تهديد للأمن القومي، معلقين بأن من يقول هذا “يعني أن النظام هش”. كانت دهشتهم أكبر عندما فوجئت بقايا المجتمع المدني، أرادوا الحصول على تصريح بالتجمع وحمل الشموع في صمت، بتهديدهم بالسجن واللحاق بزملائهم المسجونين منذ 3 سنوات، بتهمة تكدير الأمن العام، ومخالفة قانون الأمن القومي.
الأدهى من ذلك، أن استبقت السلطة الأحداث وسيطرت على الحديقة، بعد إزالة تمثال يجسد مجزرة تيانانمين، وحولتها إلى ساحة لعروض الطهي والمأكولات والملابس يقوم بها شبيبة الحزب الشيوعي، من مختلف المقاطعات والعرقيات. نظم المسؤولون عروضا موسيقية ورقصات شعبية في الخيام المتمركزة بالحديقة، مع التحقق بدقة من كل شخص يقترب منها، لضمان عدم تسرب أي معارض.
وصفت جريدة “لوموند” الفرنسية الحدث بأنه “ضجيج فلكلوري شعبي رخيص” يستهدف دفع الأحرار إلى نسيان حداد 4 يونيو. عللت السلطات الأمنية احتلالها للحديقة، بعد 3 سنوات من الحظر بسبب طوارئ انتشار كوفيد -19، بأن ممثلي الشعب يريدون الاحتفال بذكرى عودة هونغ كونغ إلى الوطن الأم، التي ستحل أول يوليو/تموز المقبل.
إنهم يكرهون الشموع!
يستهدف تصرّف السلطات، قبل شهر من الموعد الرسمي للاحتفال، محو مكانة الحديقة من ذاكرة المجتمع المدني، وتعميم صورة جديدة لها في أنحاء العالم، تخالف قيمتها كأيقونة للناشطين ودعاة الديمقراطية. أصبحت الحديقة رمزا لتآكل الحريات العامة، بعد أن ظلت لثلاثة عقود مركزا لتجمّع أمهات الطلاب والأساتذة الذين قُتلوا في مذبحة تيانانمين، وجذبت حشودا من الشباب، يدعون إلى عدم نسيان الحدث المحرَّم ذكره ويجري تشويه رموزه داخل الصين.
يعتبر المسؤولون الصينيون أن الاحتجاجات ليست الطريقة الوحيدة للتعبير عن المعارضة، مع ذلك يرفضون التصريح بأي نشاط سياسي، أو تجمّع أكثر من 30 فردا، بدون تصريح مسبق لعمل “أنشطة خيرية”، دون تسجيل أسمائهم ووضع أرقام على أعناقهم خلال فترة النشاط الذي يجب ألا يتعارض مع قوانين الأمن القومي.
استدعت الشرطة عددا كبيرا من الناشطين السياسيين قبل 4 يونيو الماضي، لتشعرهم بأنهم تحت الرقابة الدائمة، تحذرهم من حمل الشموع أو وضع لاصق على أفواههم أو استخدام الهواتف في الإضاءة وسط تجمعات بهدف التظاهر.
الجيش والشرطة “إيد واحدة”
تريد الشرطة إزالة مخاوف الجيش من عدم قدرتها على سحق المعارضة، حتى لا يستبعد الحزب الشيوعي قادتها أو وجودها من الجزيرة، ويدير الجيش الأمر بعيدا عنها، كما حدث أثناء مظاهرات تيانانمين 1989. دفع الأمن بمئات من قيادات المعارضة والصحفيين داخل السجون، بتهم التحريض على التخريب وعدم إطاعة أوامر سلطة الدولة.
أغلق النظام نحو 60 حزبا ومؤسسة مدنية، وعطل النقابات وأوقف عشرات الصحف والقنوات التلفزيونية وما تبقى يلاحق المعارض منها، وسيطر الحزب الشيوعي على إدارة ما تبقى منها أو نقل أصولها إلى رجال أعمال على علاقة وثيقة به.
تبذل الشرطة جهودا على غرار ما تقوم به أجهزة عربية واستبدادية مشابهة لها، بجعل هونغ كونغ نقطة مظلمة أمام طالبي الحرية، كما هو الحال في أنحاء الصين. فر 150 ألف شاب من الجزيرة عام 2022، بينما يبحث عشاق الحرية عن مكان بديل لساحة الحرية “فيكتوريا” يحتفلون فيه بذكرى المذبحة، لتظل مجزرة تيانانمين على قيد الحياة.