أحمد سبع الليل.. البريء الذي وعى

الجندي المصري محمد صلاح منفّذ عملية معبر العوجة الذي قتل 3 جنود إسرائيليين (فيسبوك)

 

كان على المجند الطيب الذي لا يجيد سوى العمل في الحقل، ولا يستمتع إلا بحبه الناعم والبريء للناي أن يمضي وقتًا طويلًا حتى يعي ما يدور حوله من أحداث جسام، وكانت لحظة تنويره مؤلمة له إلى أبعد حد، ولحظة التكشف الدرامية التي قدمها الثنائي وحيد حامد وعاطف الطيب في فيلمهما الثالث بعد التخشيبة، وملف في الآداب قاسية على براءة فتى الريف الأسمر من خلال فيلم البريء الذي قدم في عام 1986، وحصل على المركز الـ28 في قائمة أفضل فيلم عربي، والترتيب الـ40 في قائمة أفضل فيلم عربي في تاريخ السينما العربية.

لحظة التنوير

لحظة التنوير في الدراما، أو في الحياة، هي قمة اللحظات الدرامية في الحياة حقيقية كانت أو ممثلة، وهي قمة الحدث يسميها نقاد السينما بالعقدة في بعض الأحيان، وما قبل لحظة التنوير معاكس تمامًا لما قبلها، وعندما تقابل الأشخاص العاديين لحظات تنويرهم يكونون من أصحاب الحظوظ الطيبة، لذا تتغير حياتهم وربما الأقدار التي يعيشونها ويمرون بها.

هكذا يمكن أن نطلق على لحظة وفاة الجندي المصري زميل محمد صلاح على الحدود مع فلسطين المحتلة في واقعته التي قتل ثلاثة من جنود الاحتلال في فجر الثالث من يونيو/حزيران الجاري، تلك الحادثة وما أعقبها هي لحظة التنوير الكبرى في حياته، فقد عايش استشهاد زميله على الحدود، عايش مراسم دفنه بلا اهتمام أو حتى معرفة أو تنويه عن استشهاده بيد جنود الكيان الصهيوني، هكذا كانت اللحظة الفارقة التي قرر بعدها أن تكون الحياة قبل غير التي بعد، فكانت السطور المشرقة في سماء مصر خلال سنوات طويلة من الظلام.

لحظة تنوير أحمد سبع الليل بطل فيلم البريء الذي يعيش أيام تجنيده في سجن الواحات السياسي معتقدًا أنه يحارب أعداء الوطن هي لحظة لقائه مع ابن قريته طالب الجامعة المثقف الثائر في السجن، تلك اللحظة التي أخرها صناع الفيلم إلى الجزء الأخير منه في دلالة على ندرتها في الحياة، فلا يلاقيها إلا أصحاب الحظوظ الطيبة فتكون لحظة التطهر الخالص، وأحمد سبع الليل الذي برع في أدائه أحمد زكي واستطاع عن طريق عينيه وخطواته أن يقنعنا بهذا الأمي الساذج طوال مدة الفيلم، ثم التضاد الكبير في ندمه وصدمته في المشاهد الأخيرة وجد لحظة تنويره حينما كان يمارس شدته وغلظته في التعامل مع من أطلق عليهم قائده أعداء الوطن، إذا بصديق طفولته ومثله الأعلى ومعلمه من هؤلاء الذين يطلقون عليهم أعداء الوطن، فكان من المستحيل أن يكذب عمره معه ويصدق هؤلاء الذين لم يعرفهم إلا شهور تجنيده، يرفض سبع الليل أن يكون من علّمه معنى الوطن هو العدو، ويعاقب بالسجن معه في زنزانة واحدة.

يصدم سبع الليل الذي قتل بيده أحد سجناء الرأي في الحالة كلها، لقد قتل بريئًا وقاده جهله إلى ما فيه، وفي مشهد سابق لمشهد النهاية يضع قائد السجن عددًا من الثعابين داخل زنزانة سبع الليل وحسين طالب الجامعة، ويحاول سبع الليل أن يقتل الثعابين بعيدًا عن حسين، بينما يحارب الثعابين يلدغ أحدها حسينًا فيموت بين يديه، وفي تلك اللحظة يحسم سبع الليل قضيته في الفصل بين الحالمين وقتلة الأحلام.

مشهد النهاية الممنوع رقابيًا

يعود سبع الليل في محاولة من قائد السجن للاستفادة من قوته ووعيه الضئيل بعد عقابه بالسجن لأيام، لكن سبع الليل قبل وجود صديق طفولته غير ما بعده، يحاول سبع الليل أثناء خدمته أن يستعيد براءته الأولى بالعزف على الناي (رمز النقاء والبراءة) هذا الناي الذي أسقطه عاطف الطيب مع أول أيام تجنيده دلالة على نهاية أيام براءته، في تلك اللحظة تأتي دفعة جديدة من السجناء السياسيين إلى السجن، ليستبدل سبع الليل مرة أخرى الناي بسلاحه الآلي ليطلق الرصاص على جميع من في المكان من قادة السجن وحتى جنوده، يعاود سبع الليل الإمساك بالناي، ولكن يقتله سبع ليل آخر ليسقط الناي بجوار سلاحه الميري وتتساقط قطرات دمائه بينهما، بينما يسير قاتله بخطوات عسكرية على كلمات عبد الرحمن الأبنودي وموسيقى وغناء عمار الشريعي:

يا قبضتي دقي على الجدار.. لحد ما ليلنا ما يتولد له نهار

يا قبضتي دقي على الحجر.. لحد ما تصحي جميع البشر

وقد حذف مشهد النهاية من فيلم البريء طوال فترات عرضه، فقد رفضت الرقابة النهاية واكتفت بوضع صرخة سبع الليل نهاية للفيلم، ولم يشاهد الجمهور الفيلم كاملًا طوال الأربعين عامًا الماضية، وإن كان قد سرب بعد سنوات وتم مشاهدة مشهد النهاية منفصلًا عن الفيلم.

استطاع عاطف الطيب ووحيد حامد أن يقدما تمهيدًا رائعًا لشخصية سبع الليل من خلال الفصل الكامل بين حياته قبل التجنيد وما بعده، فهو الابن الأكبر لأمه بعد وفاة أبيه، ولديه أخ معاق ذهنيًا، يد الأم التي تعتمد عليها في فلاحة الأرض العفية عليها، لا متعة في حياته سوى عزفه على الناي، والاستمتاع بتناول الحلاوة الطحينية تجلى عشقها في مشهد تسلمه تعينه في وحدته العسكرية وكيف يتناولها؟ يسافر سبع الليل مسافة طويلة ليصل إلى وحدته العسكرية في صحراء، بينما في عودته تستعرض كاميرا الطيب الأشجار على جانبي النيل، ثم معدية في النيل دلالة النماء والبهجة مقابل جفاف الصحراء ووحشتها، هذا الفارق بين شخصيته في قريته، وذلك المجند الجامد المتوحش في السجن العسكري.

هذ التناقض ظهر أيضًا في شخصية توفيق شركس قائد السجن الذي أداه ببراعة محمود عبد العزيز في واحد من أبرز أدواره حينها، فنراه مع أطفال أصدقائه وابنته وديعًا بل مسليًا وضاحكًا مبتسمًا، ويتحول هذا الشخص إلى متوحش لا يتوانى عن كل أصناف التعذيب ضد أناس لم يعرفهم ولم يحاول أن يتعرف إلى أفكارهم، ظهر هذا بعد مشهد مقتل رشاد عويس الكاتب الروائي أحد السجناء فيقول “كان بيكتب إيه ده عشان يعملوا الدوشة دي عشانه”، وكأنهم يختارون قادة السجون أميين مثل مجنديهم.

من المشاهد الرائعة في هذا الفيلم أيضًا مشهد زيارة وفد حقوق الإنسان للسجن حينما يتحول السجن إلى مصحة نفسية بتعبير قائده شركس، فنرى الطعام وقد تحول إلى طعام خمس نجوم وافتتحت المكتبة، وتم تشغيل أغنيات، ويتعامل مع السجناء بلطف شديد، ويقول للزائرين إنهم اختاروا المكان البعيد في الصحراء ليناسب المفكرين والكتاب ليبدعوا ويتمتعوا بالهدوء والاستجمام، وما أن تطير طائرة أصحاب الزيارة حتى تنطلق الكلاب المتوحشة لتطارد السجناء وتلتهم أجسادهم، وكأن وحيد حامد وعاطف الطيب يرون المستقبل سواء مع شخصيات مثل أحمد سبع الليل، أو أحداث كزيارة وفد الحقوقيين للسجون الخمس نجوم!!

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان