الطفل محمد التميمي شاهد على العصر

أم الشهيد الفلسطيني محمد التميمي "وسط" تنعى ولدها بحرقة خلال تشييع جنازته في الضفة الغربية (مواقع التواصل)

 

بعد يوم واحد من مقتل الجنود الإسرائيليين الثلاثة برصاص جندي مصري، كانت أسرة الطفل الفلسطيني محمد التميمي (ابن الأعوام الثلاثة) تواري جثمانه الثرى، في صمت تام، بعد إصابته برصاص جنود الاحتلال بالقرب من الضفة الغربية، بينما كان في سيارة بجوار والده الذي أصيب أيضًا بالرصاص، حيث كانا في طريقهما لزيارة أحد الأقارب، كغيرهما من كثير من الفلسطينيين الذين استشهدوا غدرًا بالطريقة نفسها في أنحاء الضفة الغربية بشكل خاص، إما بأيدي قوات الاحتلال، أو برصاص المستوطنين والمتطرفين.

ما يثير الدهشة هو ذلك الصمت الإعلامي والرسمي، العربي والدولي على السواء، في ما يتعلق بالطفل الفلسطيني، وبحياة الفلسطينيين بشكل عام، بينما قامت الدنيا ولم تقعد لمقتل جنود إسرائيليين ملطخة أيديهم بالدماء، يشاركون في القتل ليل نهار، ليس ذلك فقط، بل إنهم متهمون بالعمل مع تجار مخدرات كان يطاردهم الجندي المصري، حسب الرواية المصرية الرسمية، وهو الأمر الذي يُفقد المجتمع الدولي مصداقيته في ما يتعلق بالحديث عن العدالة والحقوق والمساواة، إلى غير ذلك من عبارات لم تعد تنال أي اهتمام أو احترام شعبي في أي من الأقطار، خصوصًا بلدان العالم الثالث.

الصمت العربي والغربي

المقارنة بين الحالتين على كل المستويات، السياسية والإعلامية، الداخلية والخارجية، تكشف ليس فقط سياسة الكيل بمكيالين التي اعتادها المجتمع الدولي ومنظماته المختلفة، إنما ترصد قصور الرأي العام أيضاً في مجمله، عربيًّا وغربيًّا وأعجميًّا، بما يشير إلى أن عملية توجيه أنظار الرأي العام باتجاه ما، أصبحت أبسط بكثير مما قد نتصور، وذلك بفعل برمجة سابقة التجهيز، تفعل أفاعيلها على الفور، بتوجيه البوصلة التي تتحول إلى الهدف، من خلال ما يشبه ضغطة الزر المتفق عليها، والتي لم تعد تحتاج إلى توجيهات تحريرية أو حتى شفهية.

الصمت العربي والغربي والأممي الذي ساد العالم حال مقتل الطفل محمد التميمي بالرصاص، يكفي في حد ذاته للتدليل على فساد أخلاق المجتمع الدولي وانحيازه، وهو مبرر كافٍ لحالة الابتهاج التي تسود العالم العربي حال مقتل جندي محتل كرد فعل طبيعي، ذلك أن 162 مواطنًا فلسطينيًّا قد استشهدوا برصاص الاحتلال منذ بداية هذا العام فقط وحتى يوم مقتل الجنود الإسرائيليين الثلاثة، لم يهتز لهم الضمير العالمي، بقدر ما ينتفض لهذا الجندي الإسرائيلي أو ذاك، وهي إجابة كافية لهؤلاء الذين أبدوا الدهشة من ردود أفعال الشارع العربي هذه.

الطفل محمد التميمي سوف يبقى شاهدًا على العصر، وعلى الظلم، كغيره من مئات وآلاف الأطفال الفلسطينيين، ليس أولهم الطفل محمد الدرة، وليس آخرهم قائمة طويلة من النساء والمسنين والمقعدين من أمثال الشيخ أحمد ياسين وغيرهم، وهو الأمر الذي كان يجب التوقف أمامه إن أردنا حلًّا عادلًا ومنطقيًّا لذلك الذي يجري على الأرض، إلا أنه عصر الطغيان الذي لا يحترم إلا القوي، ولا يأبه إلا إلى لغة القوة، وهو ما عاناه العرب على مدى 75 عامًا، هي عمر القضية الفلسطينية.

وفي الوقت الذي كشف فيه جندي الشرطة المصرية، الشهيد محمد صلاح، من خلال هذه العملية النوعية زيف تلك الهالة التي تحيط بقوات الاحتلال، فقد كشفت هذه العملية أيضًا أن المحاولات والجهود الكبيرة التي بُذلت لتغيير عقيدة المواطن العربي تجاه دولة الاحتلال قد باءت بالفشل، وهو ما عبّرت عنه مواقع التواصل الاجتماعي، بمنأى عن الإعلام الرسمي، إلا أن الخطير في الأمر هو أن الطفل محمد التميمي وغيره من شهداء فلسطين لا يحصلون شعبيًّا أيضًا على الاهتمام المنتظر عربيًّا، وهو ما يؤكد استمرار سيطرة الجانب الآخر على الآلة الإعلامية العالمية، وبالتالي العربية.

خط أحمر

أعتقد أنه من المهم جدًّا التوقف أمام هذه القضية الخطيرة بالبحث والدراسة، وهي كيف أن وسائل الإعلام العربية -إلا ما ندر- تتعامل مع قتلى دولة الاحتلال من خلال المانشيتات وصدارة الأخبار، بينما تتجاهل الضحايا الفلسطينيين باعتبارهم حدثًا اعتياديًّا يوميًّا، لم يعد يرقى إلى درجة الاهتمام، وهو ما كشف عنه مقتل طفل لم يتجاوز عمرة الأعوام الثلاثة، بما يشير إلى أنه لو كان طفلًا إسرائيليًّا لانعقد مجلس الأمن الدولي على الفور، ولهاجت منظمات الطفولة والأمومة وماجت، وخرجت برقيات التعازي وتصريحات الاستنكار من العواصم العربية الواحدة تلو الأخرى.

الحقيقة التي يتحتم الإقرار بها، هي أن الدم العربي يجب أن يُمثل خطًّا أحمر على صعيد الأوضاع الداخلية لكل دولة على حدة، حتى يمكن أن يُمثل أمرًا جللًا على الصعيد الخارجي، ونذكر هنا أن دولة الاحتلال تشير في عدوانها دومًا على الشعب الفلسطيني إلى الممارسات الهمجية لقوى الأمن والجيش ببعض الدول العربية، وسقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، وهي كارثة ما قبلها وما بعدها، وهو ما يضع معظم العواصم في موقف ضعيف، تخرس معه الألسنة، وتُحجب معه بيانات الشجب والاستنكار في معظم الأحيان.

على أية حال، سوف يُسطَّر اسما الجندي المصري محمد صلاح، والطفل الفلسطيني محمد التميمي، بأحرف من نور بسجلات الشهداء في عالم اليوم، ومع النبيّين والصدّيقين في الآخرة، شاء البعض أم أبى، ذلك أننا أمام وعد رباني لا يحتاج إلى قرار دنيوي، ولا مباركة من عدو أو صديق، ولا عزاء للمتخاذلين، الذين تنكروا لهذا وذاك في آن واحد، فلم يُقدّروا بسالة الأول في الدفاع عن الأرض والعرض، ولم يأبهوا لطفولة الثاني الذي كان كل ذنبه أنه جاء في الزمن الرديء، ليكون شاهدًا على عصر الانبطاح.. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان