ماذا أصاب المانجو في مصر؟

 

ضربت عاصفة ترابية شديدة الحرارة ومصحوبة بالأمطار والبرق والرعد مصر في نهاية شهر مايو/أيار الماضي، واستمرت ثلاثة أيام، واجتاحت بساتين المانجو في طول البلاد وعرضها، من محافظة أسوان في الجنوب حتى الإسماعيلية في الشمال الغربي، وتسببت في سقوط الثمار قبيل تمام نضجها إلى حد فقدان المحصول بكامله في كثير من المزارع. وتداول مزارعون على موقع التواصل الاجتماعي صورا ومقاطع فيديو لكميات كثيفة من الثمار الساقطة على الأرض أسفل أشجار المانجو في محافظات الصعيد جنوبا ومنطقة النوبارية والإسماعيلية في الشمال.

بحزن وأسى، قال أحد المزارعين إن الرياح أوقعت المحصول على الأرض، وتسببت في خسران رزق الموسم كله، وخسائر مالية كبيرة أنفقها في خدمة الزرع. وقال إن المحصول ظهر ضعيفا جدّا في بداية الموسم، ولكن شدة الرياح طوال الأسبوع أسقطت المحصول الضعيف على الأرض، وتركت الشجر بلا ثمر، وخسر آلاف الجنيهات كان قد اقترضها من البنك وأنفقها على المزرعة، وبالتالي سوف يتعثر في السداد وربما يدخل السجن.

وقال آخر إن الرياح أطاحت بأغلب المحصول في بداية العاصفة، ولكن في الليلة الأخيرة من العاصفة، أتت عاصفة أشد وأطاحت بما تبقى من المحصول، وبذلك خرج من الموسم بلا ثمرة مانجو، بعد التعب وإنفاق الأسمدة والمبيدات والري والتقليم. وطالبت مجموعة من المزارعين وزارة الزراعة بالتدخل لدى البنوك لتأجيل سداد القروض الذي سيحل في شهر أغسطس/آب المقبل دون أن يكون لديهم مانجو للبيع، وقد يتعرضون للسجن.

ما يدعو إلى التقصي والبحث، التراجعُ المستمر في إنتاج المانجو المصرية، التي لها سمعة عالمية بما تتفرد به من صفات اللون والطعم والرائحة التي قلما تجتمع في صنف مانجو واحد حول العالم، منذ عشر سنوات، وفُقد المحصول بكامله في كثير من المزارع، وتكبّد المزارعون خسائر فادحة، رغم ارتفاع أسعار المانجو في السوق. وفق إحصاء وزارة الزراعة، تراجع متوسط إنتاج المانجو في مصر إلى 4 أطنان للفدان، في مقابل من 8 إلى 15 طنا في معظم دول العالم. وفق أعضاء لجنة الزراعة في البرلمان، انخفض إنتاج المانجو، وخاصة الأصناف المصرية، العويس والزبدية والسكري، إلى طن واحد للفدان أو أقل.

التغيرات المناخية

لم يعد مناخ مصر، كما ألفناه ودرسناه، حارّا جافا صيفا، دافئا ممطرا شتاء. بل موجات الصقيع القارس في الشتاء، والحرارة والرياح العاصفة الشديدة السخونة في الصيف. والمفاجاة أن مصر ولعدة سنوات تسجل أعلى درجة حرارة في العالم، وصلت إلى 49 درجة مئوية منذ سنة 2015 وما بعدها. والمفاجأة الأخرى، هو التوقيت في شهر مايو، وهو يوافق مرحلة تكوين الثمار، فتسقط على الأرض محققة خسائر فادحة، وليس في شهري الصيف يوليو/تموز وأغسطس، حيث مرحلة نضج الثمار التي يمكن تسويقها إذا سقطت.

في موسم 2021، وللعام الثاني على التوالي، مُني محصول المانجو فى معظم المزارع على مستوى الجمهورية بخسائر فادحة، وصلت إلى 90% من المحصول المعتاد. وبحثت وكالة رويترز عن السبب، وقال وزير الزراعة السابق أيمن أبو حديد إنه يرجع إلى التغيرات المناخية، حيث جاء فصل الشتاء دافئا على غير العادة، الأمر الذي تسبب في تبكير عملية عقد الثمار عن موعدها بأسابيع، ثم تعرضت الثمار المبكرة لموجات من الصقيع والرياح فأسقطت نسبة كبيرة منها. وما نجا من الثمار في الشتاء، تعرّض لعاصفة وموجة حرارة عالية في بداية فصل الصيف وتساقط تحت الشجر. وشُكّلت لجنة علمية من علماء مركز البحوث الزراعية انتهت إلى أن التغيرات المناخية المتطرفة هي السبب.

في ذلك الموسم، طالت المعاناة الجميع، المزارع والتاجر والمستهلك. فرغم ارتفاع أسعار المانجو إلى 35 جنيها للكيلوغرام في المتوسط، فقد حقق المزارعون خسائر فادحة، بسبب تلاشي الإنتاج. وكذلك التجار لا يربحون، بسبب ضعف القوة الشرائية للمواطن، وما كان يبيعه التاجر في يومين في الماضي، يستغرق أسبوعا، وفق تصريح أحد التجار لرويترز. والمستهلك لا يستطيع شراء المانجو بسبب ارتفاع الأسعار فوق الطاقة. إنها معادلة الحال الواقف، أو الركود كما يُدرس في علم الاقتصاد الكلاسيكي الذي يفسر العلاقة بين العرض والطلب في تحديد الأسعار.

في نهاية الثمانينيات، حكى لنا الدكتور سيد مجدي، أستاذ البساتين بكلية الزراعة جامعة الزقازيق، أنه لاحظ عدم اهتمام المزارعين بإحاطة بساتين البرتقال في قريته بالصعيد بسياج من الأشجار العالية، فنبّه المزارعين إلى أهميتها كمصدات للرياح تحمي الأشجار المثمرة وتقلل تساقط الأزهار والثمار، ولكن دون جدوى. وبعد سنوات قليلة، ضربت عاصفة أشجار البرتقال وهي في مرحلة الإزهار وأسقطت الأزهار على الأرض، ومر الموسم دون أن تُحمَّل الأشجار بالثمار، وكان درسا بليغا.

العفن السخامي الأسود

السبب الثاني لتراجع إنتاج المانجو خلال السنوات العشر الماضية هو العفن الهبابي، أو السخام الأسود كما يسميه المزارعون، وهو مرض نباتي خطير يصيب أوراق المانجو والأفرع الغضة والشماريخ الزهرية والثمار. الغريب أنه عرَض وليس مرضا في حد ذاته. تهاجم حشرات المن والبق الدقيقي ذات الفم الثاقب الماص أوراق المانجو وتمتص عصارتها، ثم تُخرج هذه الحشرات إفرازات سكرية لزجة، أو عسلية بلغة الفلاحين، تتحول إلى بيئة خصبة لنمو الفطريات الرمية التي تُكوّن بدورها طبقة هبابية شديدة السواد، تحجب الضوء عن الأوراق، مصنع إنتاج الغذاء الذي تخزنه الشجرة في الثمار، وتحرمها من القيام بعملية البناء الضوئى، مما يؤدي إلى موت الأوراق والأزهار وسقوط الثمار.

ونتيجة لهذا المرض المرعب، وصلت نسبة الإزهار في معظم البساتين إلى صفر، واختفت الثمار على الأشجار لسنوات متوالية منذ سنة 2014. وفي موسم 2018، كتبت صحيفة اليوم السابع عن العفن الهبابي الذي ضرب بساتين المانجو في محافظة الإسماعيلية، معقل زراعة المانجو في مصر، لمدة ثلاث سنوات متتالية، وبسببه خسرت محافظة الإسماعيلية نحو 70% من إنتاج المانجو. وكشف تقرير لصحيفة الأهرام الحكومية عن إهدار محصول المانجو في المحافظة والمحافظات الأخرى بنسب متقاربة وللسبب ذاته.

وكتبت الأهرام مقالا في العام نفسه عن اختفاء المانجو من الأسواق في موسم الحصاد. وقالت إن طلب إحاطة في البرلمان كشف أن خسائر فادحة وقعت على مزارعي المانجو بسبب العفن الهبابي الذي أتى على المحصول قبيل الحصاد وتسبب في تساقط الثمار، وقُدّر حجم الخسائر التي تكبدها المزارعون بأكثر من 95% من المحصول. فرص الفلاح في الربح تنعدم إذا فقد 20% من الثمار قبل نضجها، لأن تكاليف خدمة المحصول والأسمدة والمبيدات ثابتة، ويجب أن يقوم بها كاملة بغض النظر عن حجم الإنتاج المتوقع، وإلا فسوف يفقد الإنتاج كاملا في الموسم القادم.

المانجو في عهد مرسي

اختفاء أمراض المانجو والمناخ المعتدل ووفرة إنتاج المانجو في سنة 2012 وتحقيق المزارعين أرباحا مضاعفة مدعاة أخرى للبحث والدرس. خلال حواره، في 22 سبتمبر/أيلول 2012، ببرنامج حوار في مكتب الرئيس، على قناة النيل، صرّح الرئيس محمد مرسي بوفرة إنتاج المحاصيل في ذلك العام عن العام السابق، فزاد القمح بنحو 1.5 مليون طن، وزاد الأرز إلى 8 ملايين طن، وزاد إنتاج الفاكهة كالمانجو بشكل غير مسبوق، وانخفض سعرها في الأسواق إلى 3 جنيهات.

وبمجرد انتهاء الحوار، سارعت وسائل الإعلام والنخب السياسية المعارضة إلى السخرية من الرئيس، لإهالة التراب على كل ما يمكن أن يكون إنجازا يُحسَب له. وكتبت “سي إن إن” الأمريكية أن المصريين تركوا حوار مرسي وسخروا من المانجو، رغم تناوله خططا مستقبلية للنهوض بالاقتصاد والزراعة والسياحة. كتبت صحيفة الوطن تقريرا بعنوان “خبراء يردّون على مرسى: لا فضل لك فى انخفاض أسعار المانجو”. وحاول رئيس المجلس التصديرى للحاصلات الزراعية نفي أي دور للرئيس مرسي وحكومته فى الانخفاض التاريخي لأسعار المانجو. لكن الرجل، ومن حيث لا يدري، أكد حقيقة تراجع انتاج المانجو خلال سنوات حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، وزيادتها في سنة الرئيس مرسي.

وفرة إنتاج المانجو وغيرها من الفاكهة والمحاصيل في سنة 2012 حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها. وذلك نص ما سجلته صحيفة المصري اليوم في ذلك العام المبارك “نزول ثمن كيلو بلح السماني إلى جنيه ونصف الجنيه، والزغلول بـ3 جنيهات، وبلح الوادى الجديد الفاخر بـ5 جنيهات”. المصريون، باختلاف مستوياتهم الاقتصادية، استمتعوا بالمانجو في ذلك العام أكثر من الأعوام الماضية واللاحقة. وكذلك مزارعو المانجو، حققوا مكاسب كبيرة رغم انخفاض الأسعار، بسبب وفرة الإنتاج في هذا العام التاريخي، وهي معادلة صعبة نادرا ما تحدث.

في سنة 2022، زاد إنتاج المانجو، وهي سنة استثنائية بعد سنوات عجاف، لكن الزيادة لم تكن بوفرة الإنتاج في سنة 2012، ولم تنخفض الأسعار إلى ما كانت عليه في تلك السنة، ولم يحقق المزارعون أرباحا مشابهة. وبشهادة رئيس شعبة الخضر والفاكهة باتحاد الغرف التجارية، فقد تراوحت الأسعار ما بين 10 و25 جنيها، في مقابل من 40 إلى 70 جنيها في العام السابق، وهو ما يعني أن الأسعار في سنة 2022 كانت أعلى من الأسعار في سنة 2012 بعدة أضعاف.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان