المصري عندما يموت غريبا عن وطنه..!

مات الدكتور محمد الجوادي أستاذ الطب والمؤرخ والمفكر والحكاء صاحب اللغة البسيطة والحديث المتدفق الأخاذ

رحم الله الجوادي، الذي مات غريبًا عن وطنه وأهله وزملائه في محراب الجامعة وطلابه ومحبيه في مصر، وأظن أنه لو كان الأمر بيديه لعاد إلى حضن الوطن يقضي فيه ما بقي من عُمر، ويُدفن في ترابه، ويتلقى أهله العزاء فيه، ويزورون قبره.

ربما كانت مغادرة الجوادي لمصر اختيارية، وربما وصل إلى اقتناع بضرورة الخروج، وهو غير راغب في ذلك، فلا علم لي بحيثيات قراره، لكن هذه الفترة في تاريخ مصر حدث فيها ما لم أعايشه من قبل خلال فترتي حكم سابقتين (السادات 11 عاما، ومبارك 30 عاما)، ففيهما لم يكن هناك ذلك الاغتراب أو الفرار، وفيهما لم يكن للمصريين قبور في بلاد عربية وأجنبية، أما اليوم فهناك ألوف بالخارج، وهناك قبور يتزايد عددها مع توالي البقاء الإجباري ومع انقضاء الآجال الطبيعي.

صحيح أن هناك مصريين تركوا الوطن على إثر رفضهم لزيارة السادات إلى القدس، لكن عددهم كان محدودًا.

جراح وانقسام

غفر الله للجوادي وأسكنه الجنة، وهو ليس المصري الأول الذي يلقى الله في الغربة، وهذه الحالة المؤلمة ما كنت أود أن تُسجل في تاريخ الوطن، أو في دفتر هذه المرحلة من الحكم والسياسة، وكنت أود أن تكون إطاحة من كانوا في السلطة قبل عشر سنوات، وحلول سلطة أخرى، بتوجهات أخرى، محلها هادئة وادعة مسالمة دون جراح أو انقسام أو كراهية أو تعميق أزمة أو اتهامات، أو سجون، ذلك أن مصر بطبيعة كونها بلدًا قديمًا وبطبيعة تاريخها وجغرافيتها ومجتمعها وشعبها وعلاقاتها الإنسانية لم تكن تعرف الخلافات الحادة، ولا الصراعات الصفرية، ولا المواقف العدمية.

أرى من ثوابت وأصول مصر التسامح والتواد والتعاطف والتقارب والاختلاف الرقيق والصراع بدون تحطيم والاشتباك بدون تكسير، وقد يحدث ما يحدث من مشاكل، ثم ينفض سريعًا، ويجلس المشتبكون بعضهم مع بعض يتصالحون، ويقبلون الرؤوس، ويتصافون مثل الحليب، هذا في السياسة، كما في داخل البيوت، أو بين اثنين من الأصدقاء أو الأحباب.

لا معرفة لي بالجوادي، وأنا مثل غيري شاهدنا ظهوره على الشاشات بعد ثورة يناير، حيث كان ضيفًا مرغوبًا فيه من القنوات التي تحررت من تعليمات ومقص الرقيب، فظهر على شاشاتها من لم يكن أحد يتصور ظهوره يومًا في ظل حكم سابق كان يهيمن على الإعلام ويدقق فيمن يتحدث أو يكتب.

ومع هذا كان لعهد مبارك بعض المرونة في تمرير شخصيات أو برامج أو كتابات لا يرغب فيها، وإنما يرى ضرورة لها في إطار سياسة هدفها التنفيس وتخفيف أي احتقان، وليحصل النظام على شهادة بالتسامح مع الرأي الآخر، وثبت فيما بعد أنها كانت سياسة مفيدة، مقارنة بما يحصل من تشديد القبضة المتحكمة في الإعلام وعدم السماح بنفاذ أي رأي مخالف، لكن اتساع وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي لم يكسر هذا القيد فقط، بل قلّص أثر المنظومة الإعلامية الضخمة في الرأي العام وإمكانية فرضها أفكارًا معينة عليه، وليس أدل على ذلك من حادث الجندي المصري محمد صلاح، فقد حاز تعاطفًا شعبيًّا هائلًا، وصار لدى الكثيرين بطلًا بسبب وسائل التواصل، رغم أن الإعلام المحلّي تجاهله تمامًا.

غربة الجوادي

هل كانت غربة الجوادي وألوف غيره أمرًا حتميًّا بعد 3 يوليو 2013؟

إجابة هذا السؤال في اتجاه معين ربما كانت ستغير المشهد المعقد في البلاد تغييرًا قد لا يكون كاملًا، لكنه في كل الأحوال لم يكن ليجعل الجوادي ورفاقه أو معظمهم يرحلون.

طبيعة التغيير في نهاية حكم العام الوحيد للإخوان طبعت الحياة في مصر بما هي عليه طوال عشر سنوات، جماعة متشبثة بالحكم، وقوى ترفضها مُصِّرة على الإطاحة بها.

ومجمل أحداث وتفاعلات وخلافات وصراعات وأزمات ومطامع عامين وعدة أشهر بعد يناير تجسدت على الأرض في 30 يونيو 2013، واجتهادي هنا أن الجميع أخطأ في سلوكه السياسي، وتوصيفه للأزمة، ورؤيته للآخر المختلف معه، أو الكاره له، وطريقة الخروج من المأزق حينئذ، حتى في النوازع الشخصية الخفية كانت هناك حسابات قاصرة.

وكانت النتيجة هي الحصاد الصعب على كل الجبهات، ومختلف الضفاف، وجميع الأطراف في الداخل والخارج بعد يونيو؛ فلم يكسب أحد شيئًا، لا سلطة الحكم المُطاح بها، ولا من ظنوا أنهم سيرثونها ويجلسون مكانها، ومن يديرون البلاد طوال هذه العشرية يواجهون أزمات متزايدة، وبعضها معقد، فالحكم ليس سهلًا في بلد كبير مشاكله بلا حصر؛ سواء الموروث من كل عهد، أو المستجد مع بزوغ كل فجر.

روح التسامح

وتقديري أن مسؤولية الإخوان كانت أشد وأكبر، فهم سعوا للفوز بالوليد، وهم لم يجيدوا الحفاظ على هذا الوليد الذي مات خلال تنازعهم عليه مع غيرهم، وهم بعد فداحة غيابه لا يزالون يزعمون أنهم الأحق به، وأنهم عائدون وسيجدونه، وكأنه مهدي آخر منتظر.

هذا الوليد هو ثورة بيضاء بأهدافها وأحلامها وآمالها وتطلعاتها، وأثمن ما نتج عنها هو حرية بازغة، وديمقراطية ناشئة.

التغيير بالطريقة التي جرى بها كان من أسباب وجود الجوادي، وكل جوادي، بالخارج، ودفنه في تراب غريب عليه.

ولو كانت السلطة الإخوانية قرأت المشهد وفهمت الرسالة بذكاء ورحلت بنفسها فربما اختلف الوضع بنسبة كبيرة عما آل إليه من آلام ومآسٍ.

واليوم، نأمل أن تنتهي أزمة الاغتراب، بالحكمة وروح التسامح والانفتاح، وأن يعود إلى وطنه كل من يريد ذلك سالمًا آمنًا، فالوطن ملك للجميع، وترابه أولى بالجميع.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان