الحروب بين الإرادة والاستطاعة

(1) طرفا النزاع في السودان يرفضان الحوار
“نعم للهدنة، لا للحوار” عبارة تلخص مسار الصراع في السودان بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، الطرفان يقبلان من حين لآخر بهدنة قصيرة نتيجة وساطة إقليمية أو دولية ذات ثقل ونفوذ، لكن الهدنة عادة ما يتم خرقها، ورغم ذلك ما زالت تعد فرصة جيدة للسودانيين للقيام بشؤون حياتهم المؤجلة والمعطلة بسبب العمليات العسكرية في المدن التي يسقط بسببها قتلى مدنيون يفوق أعدادهم القتلى في صفوف جنود الطرفين المتصارعين. الصراع في السودان خلّف وراءه خرابًا ودمارًا شديدًا في مرافق السودان جميعها: طرق، محطات كهرباء ومياه، مستشفيات ومراكز إغاثة، مدارس وجامعات، وكذلك مساكن المدنيين وممتلكاتهم مما أدى إلى نزوح الآلاف من مساكنهم إلى مناطق أخرى داخل السودان، وكذلك لجوء أعداد كبيرة إلى دول الجوار.
منظمة “إيغاد” (التي تضم: إثيوبيا، وكينيا، وأوغندا، والصومال، وجيبوتي، وإريتريا، والسودان، وجنوب السودان) تسعى جاهدة لوقف القتال في السودان، لكن المتحدث باسمها أعلن مؤخرًا أن طرفي النزاع لا يرغبان في بدء حوار، لماذا؟ ببساطة لأن كلا الطرفين يريد أن يذهب إلى الحوار والتفاوض وله اليد العليا في ميدان القتال حيث يرسم عبر الخرائب خريطة وجوده ونفوذه الجديدة، يريد كل طرف أن يذهب منتصرًا لا متعادلًا، وحتى الآن ليس هناك ترجيح لكفة أحد أطراف النزاع على الآخر، بل تبدو الأمور متعادلة فيما بينهما. مصلحة السودان الوطن والشعب غائبة عن عقل طرفي الصراع وضميرهما، وكأن الموت في السودان المنكوب بالانقلابات العسكرية والصراعات الإثنية قدر محتوم، أينما تولي وجهك تجده يحاصرك. إفريقيا القارة البكر الغنية بمواردها التي تتصارع الدول الكبرى عليها، تستحق عن جدارة لقب “قارة التعاسة” فهي منكوبة بالحروب الأهلية والصراعات الإثنية والانقلابات العسكرية، أضف إليها المجاعات التي تهلك الأجساد النحيلة والأمراض والأوبئة التي تقصف الأعمار. يتربع الموت على عرش إفريقيا، فليس هناك متسع للحياة، فنجد أن متوسط الأعمار في إفريقيا هو الأدنى عالميًّا وخاصة في دول إفريقيا جنوب الصحراء. جودة الحياة ليست منحة من الطبيعة لكنها من صنع البشر، وكذلك تدمير الحياة وتخريبها من صنعهم أيضًا.
(2) هجوم أوكرانيا من أجل التفاوض لا النصر
“عالمنا لا يتقدم إلا نتيجة للرؤية الاستراتيجية، التي تعتمد على الغاية، ولا بد من وضوح الغاية حتى يتمكن المنخرطون فيها من إيجاد وسيلة لبلوغها في الأحوال جميعها“، هذه العبارة تنطبق تمامًا على الحرب الروسية-الأوكرانية، التي هي في الحقيقة حرب روسية غربية، كلا الطرفين له استراتيجيته وغايته المختلفة عن الآخر، وكل منهما يريد أن يحقق غايته عبر الانخراط في هذه الحرب المكلفة والمجهدة لكل منهما. روسيا تريد أن تتقدم خطوة لتصبح لاعبًا رئيسًا في النظام العالمي الجديد، قوة عظمى لا يستهان بها، أو يتم التعامل معها باستعلاء من جانب الغرب كما حدث عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، والغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية حريص على استمرار دوره القيادي للعالم وانفراده بهذا الدور. مؤخرًا أعلن الرئيس الأوكراني “زيلينسكي” عن بدء الهجوم المضاد ضد القوات الروسية على محاور عدة، ولقد تم الإعداد لهذا الهجوم على مدى شهور سابقة، وأسهمت فيه دول الناتو بمد أوكرانيا بالعتاد الحربي المتطور وتدريب المقاتلين الأوكرانيين على هذه المعدات بالإضافة إلى الدعم الاستخباري. الجيش الأوكراني أعلن أنه استرد بلدات عدة كانت تحت سيطرة القوات الروسية في حين أنكر الروس ذلك، وأعلنوا تصديهم للقوات الأوكرانية. هذه الأخبار والتصريحات المتضاربة تجعلنا نطرح سؤالًا حول الغاية من الهجوم المضاد طبقًا لاستراتيجية الغرب؟ الغاية ليست إحراز نصر كاسح على روسيا وطردها من كامل الأراضي الأوكرانية، لكن تحسين موقف أوكرانيا في المفاوضات. هذا الهدف تم الإعلان عنه صراحة من قبل الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” و”أنتوني بلينكن” وزير الخارجية الأمريكي حين قالا: “نجاح الهجوم المضاد من شأنه أن يحقق أمرين، تعزيز موقع أوكرانيا في المفاوضات لتكون بشروط جيدة، وقد يؤدي إلى جعل بوتين يركز في نهاية الأمر على التفاوض لإنهاء الحرب التي بدأها”.
(3) نعلن الحرب عندما نريد، وننهيها عندما نستطيع
هذا المقولة تظهر الفرق الواضح بين الإرادة والاستطاعة، من يعلن الحرب عادة تكون لديه إرادة شنها واعتقاد أنه يمتلك الاستطاعة أيضًا، لكن بعد أن ينخرط فيها يجد نفسه غير قادر على إيقافها. الحروب تتسع كحرائق الغابات لتصل إلى مساحات تفوق القدرة على إطفائها من جانب من أشعلها، روسيا لا يمكنها الآن أن توقف الحرب في أوكرانيا وكذلك الحال في السودان، القرار لم يعد قرار طرف واحد، ولا حتى طرفي النزاع، لكنه قرار يخص الأطراف جميعها التي انخرطت في الصراع بصورة مباشرة وغير مباشرة. أعتقد أن الحرب الروسية الأوكرانية ستنتهي بالوصول إلى مائدة المفاوضات مع نهاية العام الحالي، فالهجوم الأوكراني المضاد في حال نجاحه أو حتى فشله سيكون نهاية الصراع، فالأطراف كلها مستنزفة، أما في حالة السودان فلا أمل أن ينتهي القتال هذا العام، فما زالت أطرافه تعتقد أن لديها إرادة الحرب ولم تستنزف قوتها بعد.