هل سجد الشعراوي لهزيمة مصر ولماذا؟!

رحم الله إمام الدعاة، وشيخ المفسرين المعاصرين: العلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي، الذي رحل منذ ربع قرن من الزمان، فقد توفي في 17 يونيو/ حزيران سنة 1998م، الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وكان صاحب أول تفسير مسموع ومرئي للقرآن الكريم، والذي يكثر الجدل حول مواقفه وعلمه كلما جاء ذكره، ولا ضير في النقاش حول فكر الرجل، فهو بشر يصيب ويخطئ، لكننا نلاحظ أن أكثر من يناوشون الشعراوي حيا وميتا، كانوا من أجهل الناس بما يطرح، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
سجود الشعراوي بعد هزيمة يونيو 67
هناك حادثة لا يمر ذكر الشعراوي رحمه الله، إلا ويلوكها عدد من العلمانيين وكارهي الشيخ وكارهي خطه الوسطي، فيذكرونه بهذا الموقف تنديدا وإنكارا، بل وتشنيعا، وربما أخرجوه بها من الوطنية المصرية، وهو موقف ذكره الشعراوي نفسه، في حوار مع الإعلامي المصري طارق حبيب، في برنامج بعنوان: من الألف إلى الياء، جاء فيه حديث عن نكسة يونيو، التي هزمت فيها مصر على أيدي جيش الاحتلال الصهيوني، فقال الشعراوي: إنه سجد لله وقتها، ولما سئل لماذا سجدت؟ فقال: لأننا لو انتصرنا على ما كنا عليه من معاص، ومظالم، لكان فتنة للناس، ولزاد أهل الطغيان في طغيانهم. وقد سجد الشعراوي بعد نكسة يونيو، وسجد بعد انتصار أكتوبر 1973م.
والذي يجهله الكثيرون، وعلى رأسهم المهاجمون للشعراوي، أنه لم يكن موقفا عابرا له، فسجوده كان موقفا تعبيريا عن موقف من سلطة أدت بالبلد إلى خسائر متتالية، وعلى من يريد أن يؤيد أو يرفض موقفه أن يضمه إلى بقية تفاصيل القصة والموقف، وأحسب أن أكثر من يهاجمونه أو يدافعون عنه، يكتفون فقط بفيديو قصير له، أو لابنه عبد الرحيم الشعراوي، ويتناولون الموضوع منهما فقط، بينما الموضوع أكبر وأوسع من ذلك، فالموقف لم يكن سجدة شيخ لحدث جلل، بل اتسعت دائرة التعبير عند الشعراوي، حتى بلغت أهل السلطة، وأكبر رأس فيها، وهو ما أظنه غير معلوم.
فلم تكن كلمة عابرة، أو فعلا فعله الشعراوي في الخفاء، بل كانت كلمة مدوية معلنة، ومنشورة، وبين كبار العلماء من العالم الإسلامي، وبحضور كبار رجال الدولة أيام عبد الناصر، وقد كنا نظنها أمرا مارسه الرجل ثم أعلن عنه في أواخر سني عمره، حتى فاجأنا الدكتور محمد رجب البيومي بكتابه: “محمد متولي الشعراوي.. جولة في فكره الموسوعي الفسيح”، وفي كتابه: “النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين” في الجزء الرابع منه، وقد تناول هذه الحادثة، وأتى بها من جذورها، فكتب ما يجلي لنا الموضوع، فجزاه الله خيرا على ما بذل من جهد لبحث الموضوع، والدلالة على نص نفيس ومهم في تاريخ المؤسسة الدينية في عهد عبد الناصر.
كلمة الشعراوي نيابة عن شيخ الأزهر
فبعد نكسة يونيو، أشار المسؤولون بعقد مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية لرأب الصدع نفسيا، بعد أن اهتزت القلوب، وشعر الناس بهول الكارثة، وكان من المقرر كعادة مؤتمرات المجمع، أن يلقي كلمة الافتتاح شيخ الأزهر، بحضور رئيس الجمهورية أو نائبه، وكان شيخ الأزهر الشيخ حسن مأمون مريضا، فوكل إلى مدير مكتبه الشيخ محمد متولي الشعراوي أن يكتب كلمة ويلقيها نيابة عنه، وحضر نائب عبد الناصر، السيد حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية نيابة عن الرئيس.
ومما جاء في الكلمة التي كتبها وألقاها الشعراوي نيابة عن شيخ الأزهر، هذه الكلمات القوية: “كان لقاؤكم علماء المسلمين في هذه الدورة أخطر ما واجهتم من لقاءات؛ لأنه جاء على ترقب الدنيا كلها لما تواجهون به الموقف من تحليل وحلول، وتوعية وتعبئة، وتخطيط، وعلى قدر نجاحكم في مهمتكم تزداد ثقة المؤمنين بربهم إيمانا، وبكتابه دستورا، وبرسوله هاديا ومخلصا، وبكم مجتهدين راسخين.
محنة دين وسياسة معًا
أيها الإخوة العلماء: إن نكبة النكسة التي واجهت أمة العرب وشعوب الإسلام لم تكن محنة سياسية، بقدر ما كانت محنة دين؛ فمن الجائز على سياسة البشر أن تخطئ تخطيطا، أو تخور مواجهةً، لكن ليس من الجائز أن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، فحين صدم المسلمون بما كان، عجبوا أن يتخلى عنهم ربهم، ويسلمهم إلههم، ولو أنهم أنصفوا لعرفوا موقعهم من دين الله، ولأدركوا أن ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وليس الإسلام شكلية أسماء، ولكنه موضوعية اقتداء، ولا هو جغرافية مواطن، ولكنه نفاسة معادن.
لو انتصرنا لتجرأنا على محارم الله
ولا أشك -وحضراتكم معي- أننا لو انتصرنا ونحن على ما كان في مجتمعنا من خلل وانحراف لازددنا جرأة على محارم الله، ولجعلنا النصر شهادة على صدق التحلل، وسلامة الانحراف، وصواب الانفلات، بين حضرة الله ومبادئ الإسلام، ولهذا كانت الهزيمة غيرة من الله علينا؛ لأن فينا وجدان الدين، وإن لم يكن لنا سلوك المتقين، فحاسبنا الله لنرجع إليه، وابتلانا لنُقبل عليه، وذلك قانون الأحياء، يحتم مرارة الجرعة تقريبا لحلاوة الشفاء، فعلينا معاشر العلماء أن نبين للناس أن الله لا يتغير من أجلنا، ولكن يجب أن نتغير نحن من أجل الله، لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
أيها الإخوة العلماء: ليحمل كل منا بلاغ هذا المؤتمر للناس، ولنجمع أمرنا على خطة حزم، وخطوة عزم، لها من الدين سداد، وبالله مدد، واهتفوا في آذان الحاكمين جميعا: أن كفى ما كان من اتساع هوات، واعتساف خلافات، وواجهوا الأمر بتنسيق جهود، وصفو قلوب، وتكامل إمكانات، والتحام طاقات، وحسبنا وعدا على صدق الجهاد قول الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}” (غافر: 51).
كلمة أزعجت السلطة بشدة
هذه فقرات من الكلمة، التي نشرت في مجلة الأزهر، في العدد الصادر في شهر شعبان سنة 1388هـ/ نوفمبر/ تشرين الأول سنة 1968م، وكذلك في الكتاب الذي صدرت فيه بحوث المؤتمر الرابع لمجمع البحوث الإسلامية، الصادر في رجب سنة 1388هـ/ سبتمبر/ أيلول سنة 1968م، في مؤتمر عام حضره أكثر من مئة عالم من شتى أصقاع العالم الإسلامي، ونالت إعجاب العلماء الحاضرين، لأنها تعبر عنهم، لكنها كانت شديدة الوقع على السلطة، ولم تقابلها السلطة بالصمت، وبخاصة بعد أن نشرت.
فقد ذهبوا إلى شيخ الأزهر الذي تغيب عن المؤتمر لمرضه، فلعل الشعراوي فعلها من نفسه، دون الرجوع إليه، فعندئذ ينكلون به، ويكون ذلك مخرجا لهذه السلطة من هذه الكلمة الشديدة الوقع عليهم، يقول الدكتور محمد رجب البيومي: “كانت كلمة الإمام قنبلة دوت في المؤتمر وتطاير أمرها إلى المسؤولين، ففزعوا إلى سؤال الشيخ عن مدى نسبتها إليه، فأعلن أن الشعراوي قد كتبها بروح المؤمن، وأنه قرأها مرات أمامه، ووافق على كل حرف بها، وهو مسؤول عنها أمام الله قبل أن يسأل أمام الناس، ورأى القوم أن محاولة المؤاخذة ستكثر من القول، وتجعل أسباب الهزيمة أمرا شائعا بين الناس جميعا، وهو ما يحذره هؤلاء الذين وصفهم الشيخ بأنهم سببوا الهزيمة بالانحراف والجرأة على محارم الله، ولم يكن لهم سلوك المتقين، فآثروا السكوت، وعملوا على إقصاء الإمام الأكبر، وسارع الشيخ الشعراوي بالهجرة مبعوثا إلى حيث يغيب عن المتربصين”.
هل سجد الشعراوي لهزيمة ناصر أم مصر؟
والسؤال المهم هنا: هل سجد الشعراوي في هزيمة وطنه مصر، أم سجد لهزيمة نظام كانت هذه إحدى هزائمه؟ الحقيقة أن الواضح أن الرجل لم يكن سجوده شماتة في وطنه، ولا في غيره، بل كان كما عبر في تفسيره عندما كان يتحدث عن غزوة أحد، وهزيمة المسلمين، وبينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن هذه الهزيمة هي خير دليل على صحة المنهج القرآني، فلو أن النصر يأتيهم أحسنوا أم أساؤوا لما كانت لسنن الله في الكون أهمية، ولما عمل إنسان، بل تواكل الناس بدعوى توفيق الله وتأييده.
فالواضح من موقفه أنه كان حديثا عن هزيمة نظام، وليس عن هزيمة وطن، والداعية كالطبيب لا يخدع المريض، بل يبصره بعيبه، وكان العيب الواضح آنذاك، ما عبر عنه في كلمته، أنه كان سيودي إلى التمادي في التجرؤ على محارم الله، والتنكيل بالناس والدماء، وهو ما أثبتته الوقائع والأحداث، فيما دوّنه التاريخ.
ومن أكبر الكوارث التي تواجه من يعارض الأنظمة المستبدة، أنهم يواجهون من يكشف ظلمهم، بكتاب وإعلاميين يتهمون المخالف بأنه يهدم الوطن، وأنه يعادي الوطن، فهم يحولون الوطن إلى شخص الحاكم، وهو كلام فارغ لا ينطلق من حقائق، بل ينطلق من فكر سلطوي فقط. فينبغي لنا أن نفرق بين السلطة والوطن، وهو ما نراه واضحا عند الشعراوي وغيره في هذه المسألة ومثيلاتها.
جرأة تحسب للشعراوي
وهذا موقف سواء اتفقت مع طريقة تعبير الشعراوي عنه أم اختلفت معها، فهو محسوب له، حيث إنه جهر به أمام سلطة لا ترحم، ولا تقبل المخالف، ولم تسمح لأحد بأن يناقش النكسة، متهما السلطة بالتسبب فيها، ولو أن أحد المناوئين للشعراوي مثلا، كتب أو قال وقت الهزيمة: إن سبب الهزيمة التي منينا بها، هو غياب روح الديمقراطية والشفافية، وتحكم العسكريين في كل مقاليد الدولة ومقدراتها، وتولي من ليسوا بأكفاء لمقاليد السلطة بكل مفاصلها، لظل طوال حياته يباهي بموقفه، ولعاش على هذه المقولة سنين عددا يعد في باب المناضلين الكبار.