سر اختفاء الأغنية البديلة

أم كلثوم

 

 

في أحضان القصور والمؤسسات الرسمية للبلاد نشأت الأغنية المصرية في عهد الخديوي إسماعيل الذي أولى المغنية ألمظ صاحبة الصوت الشجي في عهده اهتمامًا كبيرًا، ومعها كان المطرب الأشهر بين مطربي مصر في الأفراح والملاهي عبده الحامولي، كانت عناية إسماعيل صاحب القصر المغرم بالحالة الأوربية الغربية بمطرب ومطربة يقدمان الغناء إيذانًا بميلاد عصر الرعاية الرسمية للدولة بالغناء، وكان قد سبقه هارون الرشيد الذي ازدهر في عهده مطربون مثل إسحاق الموصلي، وزرياب، ومنذ عناية الخديوي إسماعيل بالأغنية والمغنين كانت فكرة رضا الحاكم عن مغنٍ ومغنية معينة سعي كل من يقدم الغناء، وتوارى كثيرًا الاهتمام بالشعراء الممتد في التاريخ العربي قديمًا منذ شعراء الجاهلية ثم شعراء الدولة الإسلامية مع بدايتها على يد حسان بن ثابت شاعر الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام.

مطربو القصور

ظهر على مدار عصر الملكية في عهد أحفاد محمد علي بعد تجربة ألمظ والحامولي ما يمكن أن نطلق عليهم مغني الملوك والقصور، وصولًا إلى عهد الملك فؤاد بمنيرة المهدية وأم كلثوم في بدايتها ومحمد عبد الوهاب، واللذين مثّلا أيضًا عصر الملك فاروق وصارا من المقربين له، وأطلق على محمد عبد الوهاب مطرب الملوك والأمراء برعاية أمير الشعراء أحمد شوقي، ولا ننسى تدخلات شخصية للملك في حياة المطربين، ولا سيما السيدة أم كلثوم التي قيل إن أم الملك تدخلت في إحدى المرات لمنع زواجها.

هكذا وضعت الدولة بعض المغنين تحت رعايتها، تاركة الآخرين للإذاعات الأهلية التي ظهرت في عشرينيات القرن العشرين، ومع اتساع وجود الملاهي والمسارح الغنائية والمسرحية في الوقت نفسه، لتتسع مساحات الغناء بعيدًا عن القصور كثيرًا، ثم كان إنشاء الإذاعة الحكومية في 31 مايو/أيار 1934 مساحة أخرى لمطربي عهد أم كلثوم الذين ضمتهم السينما والمسرح والملاهي التي انتشرت مع نهايات النصف الأول من القرن العشرين، ولكن ظل رضا الدولة عن المطربين نصب عين الشعراء والمغنين، الذين كانوا يتسابقون في أغاني المدح قديمًا وحديثًا.

كانت الثورة الشعبية في مارس 1919 موعدًا لبداية انتشار أغانٍ أكثر شعبية وخروج عن المألوف في الأغاني والموسيقى الشرقية تركية الجذور بظهور سيد درويش البحر موسيقى وغناء وشعرًا، نقل درويش الأغنية إلى الشارع بطوائفه وعماله الصنايعية، فصارت الأغنية ممثلة لكل طوائف الشعب من نجارين وحمارين وفلاحين وسيدات ورجال، وظهرت أغنية الطبقات الشعبية.

لم تكن تلك القفزة التي قادها سيد درويش وبديع خيري وبيرم التونسي وغيرهم فقط في الموضوع والشعر، بل إن درويش قام بثورة على الموسيقى وألحانها وتراثها التركي القديم المعتمد على إيقاع الربع تون الموسيقي، وما كان يطلق عليه موسيقى الأمان يالا لي لي، وظهرت أغنيات نقدية مثل الوارثين، وأغنيات وطنية مثل أنا المصري كريم العنصرين، وكان النشيد الوطني المصري أحد تجليات سيد درويش ويونس القاضي شاعرًا، وظهرت أغنيات مثل يا حلاوة أم إسماعيل، ودنجي دنجي عن وحدة شعبي مصر والسودان وأيضًا:

الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية

والديك بيدن كوكو في الفجرية

ياللا بينا على باب الله يا صنايعية

يجعل صباحك صباح الخير يا أسطى عطية

كلمات جديدة على كلمات الغزل والمدح والحب والوله والرومانسية، لا تتغنى بالليل والسماء والهجر والوصال، والشوق والعيون، إنه انقلاب سيد درويش غناء وموسيقى، سنوات قليلة عاشها درويش معلنًا بداية عصر موسيقى الشعب وغنائه، استطاع في رحلة عمره القصيرة أن يضع لنفسه مكانة الريادة في عالم جديد للغناء، وحاول درويش أن يقدم المسرح الغنائي وصولًا إلى أوبرا شعبية مصرية، فمات شابًا لم يتجاوز 31 عامًا في عام 1923، بينما كان الشعب المصري يستقبل سعد زغلول الزعيم العائد من المنفى بأغنيته التي صارت النشيد الوطني المصري:

بلادي بلادي بلادي.. لك حبي فؤادي

مصر يا أم البلاد.. أنتي غايتي والمراد

وعلى كل العباد.. كم لنيلك من أيادي

مات درويش بعد أن ترك تراثًا فنيًا كبيرًا وبصمة موسيقية لا تزال محل بحث ودراسة لما لها من سبق في تطوير الأغنية المصرية وموسيقاها، لكن أهم ما تركه درويش هو هذا المسار في التجديد الذي سار على دربه موسيقيون مصريون جاؤوا من بعده كان أولهم منير مراد ومحمد فوزي اللذين أحدثوا تطورًا كبيرًا في الموسيقى، لكن كانت الأشعار بعيدة نسيبًا عن التعبير عن الشعب بطوائفه، وأن كان فوزي اهتم بتلحين بعض الأغنيات الوطنية مثل وطني أحببتك يا وطني، لكن مراد رغم إنجازه الموسيقي لكن تلحينه انصب على الأغاني الرومانسية والعاطفية، ولحّن مع بدايات الخمسينيات للعديد من نجوم الغناء المصريين والعرب، لكن يبقى لفوزي ومراد إنجاز موسيقي متميز.

مكانة أم كلثوم من الملك إلى الثورة

عام 1952 قامت ثورة يوليو التي اهتمت اهتمامًا كبيرًا بالثقافة بصفة عامة والأغنية خاصة، ومع اتساع الإذاعات التي أنشأتها الدولة المصرية بعد يوليو اتسعت مساحات الغناء وتنوع الإنتاج الغنائي، وقاده جيل جديد من الشعراء والملحنين مثل محمد الموجي وكمال الطويل وعبد العظيم عويضة ومحمود الشريف، وانتقل محمد عبد الوهاب الألفة لهذا الجيل بموسيقاه إلى مرحلة جديدة حاول أن يجاري التطور الموسيقي للشباب، وفي الوقت ذاته متمسكًا بتراثه الموسيقي، وتنوع الشعراء الذين دخلوا مجالات جديدة للكتابة، وظهر جيل جديد منهم مثل الأبنودي وعبدالرحيم منصور مع جيل القدامى أحمد رامي وشوقي وحسين السيد وفتحي قورة ومرسي جميل عزيز وأحمد شفيق كامل، وكان الظهور الأبرز لصلاح جاهين.

ومع ميلاد أعداد كبيرة من الشعراء والمغنين تنوعت الموضوعات الغنائية وألوانها، وظهر الغناء الشعبي تعبيرًا عن المناسبات والأفراح الشعبية، والحقيقة أن يوليو واهتمامها بالعدالة الاجتماعية واتساع دوائر التعليم والتصنيع والرقعة الزراعية بدأ الشعراء يعبّرون عن صعود طبقات جديدة مع الشعب، وكان اهتمام الدولة فائقًا في الأغنية الوطنية التي تزعمها عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين وكمال الطويل مع موسيقي متفرد كان يقوم بالتوزيع الموسيقي هو علي إسماعيل، الذي أوجد ما يسمى بالتوزيع مع أندريه رايدر.

احتفظت أم كلثوم بمكانتها الفريدة سيدة للغناء العربي مع ظهور أجيال شادية ونجاة الصغيرة، فايزة أحمد، وردة الجزائرية ونجاح سلام وغيرهن، وتنافسن أيضًا في تقديم الأغاني الوطنية المعبّرة عن الثورة التي كانت تتم برعاية الدولة عبر الإذاعة المصرية.

في يونيو 1967 كانت هزيمة يونيو، تلك الهزيمة التي أفرزت نوعًا جديدًا من الغناء البديل قاده فؤاد حداد شاعرًا، وسيد مكاوي ملحنًا والكثير من الأصوات الغنائية الجديدة قدموا لونًا غنائيًا جديدًا على الجمهور العربي من رحم الهزيمة وبرعاية الإذاعة المصرية، وظهر أيضًا أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وعدلي فخري ملحنًا، وسمير عبد الباقي وفؤاد قاعود شعراء الذين قدموا ما يمكن أن نطلق عليه تيار أغنية المعارضة الوطنية التي سار نهرًا عريضًا استمر حتى ثورة يناير 2011 وبعدها لمدة عامين، وهذا التيار هو موضوع المقال المقبل إن شاء الله لنا اللقاء.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان