مدن “الزومبي” والأشباح الصينية في بلاد العرب!

يحرص المسؤولون الصينيون على إصابة ضيوفهم بالدهشة. يحددون في برامج الدعوات الرسمية يومًا أو بعض يوم، لزيارة المدن الجديدة والمباني العملاقة. ظلت مدينة “بودنغ” على أطراف مدينة شنغهاي، محطًا لرحلات الزائرين، منذ بنائها تسعينيات القرن الماضي، على أراض زراعية ومستنقعات جافة، حتى أصبحت مركزًا لناطحات السحاب وأكبر الشركات العالمية.
تستقبل مدينة تيانجين المصيف الرسمي لقادة الحزب الشيوعي، بجوار العاصمة بيجين، الضيوف منذ كانت مدينة صغيرة تحتضن بنايات على الطرز الأوربية واليابانية والصينية التقليدية، وبعد تحولها لمركز مالي وصناعي، حجبت ناطحات السحاب ضوء الشمس عما حولها من مبان عريقة.
يصل ولع مسؤولي الحزب الشيوعي في شنغهاي حرصهم بدعوتنا كل زيارة إلى مأدبة رسمية، على ارتفاع 350 مترًا، في برج اللؤلؤة أيقونة المدينة الشهير، أو ناطحة سحاب تزيد عن 100 طابق، من المنشآت التي شيدتها شركة المقاولات المنفذة حاليًا للبرج الأيقوني بالعاصمة الإدارية الجديدة في القاهرة.
الهروب من مدن ساحرة
تمتلك الصين ناطحات سحاب أكثر مما تملكه مدن العالم مجتمعة. كان لافتًا أن نجد سباقًا بين الأقاليم على تشييد مدن عملاقة، وناطحات سحاب في مناطق قروية صغيرة. لاحظنا خلو معظم المباني من السكان لسنوات طويلة، فعندما يأتي الليل لا نرى أنوارًا بالمنازل المصممة على طريقة أفلام الخيال العلمي، تصيب المرء بالرعب.
تلقينا من أصدقاء بتيانجين صورًا يتداولونها عبر الإنترنت، حول تشققات بمبان حديثة وانتفاخات بالطرق وتصدعات مخيفة بمراكز تجارية، ظهرت في الآونة الأخيرة، دفعت آلاف الأسر إلى ترك منازلهم، خشية انهيارها، ولحين تحقق السلطات من أسبابها تشير الصور إلى أن ناطحات السحاب وأحياء كاملة بنتها شركات الدولة، على مدار 15 عامًا، ما زالت خاوية على عروشها.
يأتينا الخبر من بودنغ، عن تحولها ليلًا إلى مدينة أشباح، رغم امتدادها على شواطئ مدينة شنغهاي التي لا تنام. يدفع البناء الفاخر الأسعار إلى مستويات تعجز الأسر عن تدبيرها، ولا يريدها رجال الأعمال، لذلك يهربون بمجرد انقضاء عملهم، إلى المدينة الساحرة، وسط 22 مليون نسمة.
إحصائيات صادمة
صدم وزير الإسكان الصيني الرأي العام، بإعلانه في مايو الماضي، عن توصل فريق بحثي يضم 5 ملايين فني محترف من بينهم 2.6 مليون موظف في وزارته، بعد 3 سنوات من إجراء دراسة مسحية، أن الصين تمتلك 600 مليون مبنى سكنيًا. رسالة الوزير، نقلتها أجهزة الإعلام الرسمية، استهدفت طمأنة المواطنين على توافر العقارات بكميات كبيرة، تكفي لطلب المواطنين كافة، حالة التزامهم بدعوة الحكومة لزيادة الإنجاب، ورفع معدلات المواليد من طفل إلى 3 أطفال للأسرة. هي الأبواق نفسها التي دعت لإجهاض المرأة قسرًا، واتهمتها بالخيانة الوطنية لما أنجبت أكثر من طفل لمدة 40 سنة.
أدت الصدمة إلى انهيار بأسعار العقارات، في سوق يعاني اضطرابًا شديدًا بالاستثمارات والتمويل، ومعدلات تنفيذ الوحدات المباعة للجمهور، منذ 4 أعوام. يدخر الصيني ثلث دخله شهريًا، في أعلى معدلات الادخار عالميًا. تتوجه الأموال، لشراء وحدات عقارية أو بناء خاص أو الاستثمار بأسهم شركات عقارية كبرى، أغلبها مملوكة للحكومة.
حرّكت كلمات الوزير جهات متعددة، لتحليل بيانات رصدت مخزونًا عقاريًا هائلًا، يكفي لإيواء ثلثي سكان العالم.
أثبتت دراسات سابقة أجريت منذ عام 2017، وجود 65 مليون وحدة سكنية شاغرة، و60 مدينة كاملة يطلق عليها مدن الأشباح، لم يسكنها أحد أو بنسبة لا تتعدى 20% من عدد وحداتها، بعد مرور عقدين من تأسيسها.
مدن “الزومبي”
يطلق الصينيون على هذه الأماكن “مدن الزومبي”، منها مدينة تياندوشانغ، المعروفة باسم “باريس الصين”، نسخت الشركة المنفذة برج إيفل والشانزليزيه، وباريس القديمة بالكامل. أقامت السلطات مدينة “يي جيابو” -صورة كربونية من حي مانهاتن في نيويورك- شاهقة المباني والشوارع المتسعة، حيث لا شركات ولا بشر.
أظهرت تحليلات أجريت على تصريحات الوزير، مقارنة بنتائج الإحصاء العشري السابع لعدد السكان عام 2020، أن عدد المباني السكنية بلغ 522 مليون مبنى، يقيم فيها 901.99 مليون نسمة بالحضر يمثلون 63.8% من تعداد السكان، والباقي موزعة بالريف. يفسر المحللون أن كل مبنى يضم 50 وحدة سكنية بالمتوسط، لذلك فالصين لديها 1.08 مليار وحدة سكنية. بيّن الخبراء أن هذه المباني لن يمكن استغلالها قبل نصف قرن، رغم إمكانية تحويل 47 مليون مبنى منها إلى مشروعات غير سكنية، كمحال تجارية أو مدارس أو مصانع أو مستشفيات.
لا سكن للفقراء
تقسم الحكومة عادة المشروعات العقارية -90% منها في المدن- بواقع 30% للسكن و20% للصناعة و20% للخدمات، مع ذلك يشكو الناس، من عدم قدرتهم على شراء الوحدات للارتفاع الكبير بأسعار البيع، وعدم تفضيل التأجير إلا للمحال التجارية والإدارية المرتفعة العائد، وتوقف التسهيلات البنكية والحكومية للأسر الفقيرة.
كشفت دراسة مسحية في جامعة Southern University للاقتصاد، عام 2018، أن قيمة المباني الشاغرة، تبلغ 10 تريليون يوان (1.42 تريليون دولار). تشير الدراسة إلى معايير اقتصادية دولية، تعد نسبة المباني غير المأهولة من 5-10% مقبولة ماليًا، وعندما تصل 10-20% تشكل خطورة، وما يزيد عن 20% يعد دمارًا شديدًا. تؤكد الدراسة أن 35% من مباني الصين شاغرة، بينما يوجد ملايين الأسر غير قادرين على تدبير السكن، وملايين أخرى تقيم في العراء وبين مباني مدن الأشباح، يشتغلون بأعمال متدنية.
الوجه القبيح
تظهر مدن الأشباح الوجه القبيح لاقتصاد ينمو على فقاعة العقارات، فيوجه 30% من ناتج إجمالي للدولة، وصل 18 تريليون دولار، بمشروعات يتولى هدم العديد منها في منطقة Kunming ليثبّت أسعار السوق المرتفعة، وفي مدن أخرى لعدم قدرة الشركات على استكمالها. أوقفت السلطات تجديد القروض لشركات زادت ديونها غير مضمونة السداد للبنوك، عن 2.7 تريليون يوان عام 2022. تعد السلطات الشركات العقارية ذراع الحزب الشيوعي لتوليد المال، مع عوائد الأرض الذي يحتكر أصولها، تربط ثرواتها بالسيطرة على الأفراد ومصادر القوة. يكشف الحزب من وقت لآخر، حالات فساد مفزعة يرتكبها قادته ومنظومة الفساد التي تعده من قواعد اللعبة السياسية. تصدّر الصين نموذجها إلى دول عربية، مستغلة شغف قياداتها لبناء مدن عملاقة وأبراج شاهقة بقروض باهظة التكاليف، وهي لا تدرك أن النموذج الهش، سيحوّل مشروعاتها مع الوقت، إلى مدن أشباح.