صرخة الألم والهزيمة في الأغنية البديلة

انكسر الحلم في يونيو/حزيران 1967، وحاول المصريون خلال سنوات ثلاث في حرب الاستنزاف وبعده في حرب أكتوبر أن يتجاوزوا هذا الانكسار، لكن العدو كان قد تخلل من خلال القصر فاتحًا طريقًا للهزيمة الكبرى للوطن، استمرت محاولات المصريين من يناير 1977 حتى يناير 2011 يحاولون العودة إلى التاريخ والدور الذي كسر في يونيو، ولكن انكسرت يناير سريعًا بعد عامين فقط من قيامها، ولذا كانت الأغنية البديلة حاضرة طوال نصف قرن، لم تغب بعد يونيو وواصلت حتى ثورة يناير.
انكسر حلم السيادة، الحرية، الاستقلال، الوحدة، التنمية في الخامس من يونيو على أرض المطارات العسكرية، وفي هضبة الجولان، والضفة والقدس الغربية، وكان لا بد من انكساره -تلك إشكالية أخرى تحتاج إلى تدقيق في التاريخ العربي والإسلامي وليس موضعها هنا-، ومع هزيمة الحلم انخلع قلب الأمة متمثلًا في مبدعيها ومفكريها، ومع استمرار سنوات الهزيمة بتصالح مع العدو، وعصر الشهوات والعزف عليها بعد نصر أكتوبر، والإبحار في عالم الأحلام وزغزغة أحلام النفس البشرية تفتت كتلة وجدان الأمة، فذهب مع التيار السائد أصحاب الأحلام والطموح البشري، وتمسك بالوطن أصحاب القلوب النقية فظلوا يقاومون منهم من قضى نخبه ومنهم من ينتظر.
وقعت الهزيمة وتركت آثارها في صفوة الشعراء والمغنيين والموسيقيين، وكذلك الأدباء وصناع الفنون كافة حتى أنني ما زلت في حالة تعجب من الذين ما زالوا أحياء ويلقون تهم التخاذل وانهيار الوطن على يونيو البعيدة بعد نصف قرن -وهذا موضوع آخر-، لكن رغم آثار الهزيمة كلها في هؤلاء الذين نبحث عنهم لنضيء المستقبل، إلا أن يونيو خلقت تيارًا قويًا في الأغنية المصرية والعربية، بدا هذا في تجارب مصرية سنرصدها خلال المقال إذا أمكن، وتجارب عربية في فلسطين قادها الشعراء محمود درويش وتوفيق زياد، سميح القاسم، مع الملحن مارسيل خليفة، والكثير من شعراء فلسطين وموسيقييها.
في مصر وبعدما أنهك عبد الحليم حافظ -صوت الثورة المصرية طوال عهدها- نفسه في استوديوهات الإذاعة أيام يونيو الأولى مع بليغ حمدي، والشعراء عبد الرحمن الأبنودي، عبد الرحيم منصور، ومحسن الخياط في تقديم أغاني الحرب مثل أبنك يقولك، اضرب، إنذار، بركان الغضب وغيرها.
دخل حليم إلى حالة اكتئاب كبيرة لم يقدم بعدها سوى أغنيات قليلة مثل عدى النهار، المسيح، وأحلف بسماها مع الأبنودي وبليغ، ثم استيقظ قليلًا في أكتوبر ليغني صباح الخير يا سينا، لكن كان عبد الحليم هو ابن ثورة يوليو وصوتها الرسمي الذي ترعاه الدولة، يمكن أن نطلق على المغنيين كلهم ذلك، بينما ذهبت مع هزيمة يونيو عبقرية صلاح جاهين في الغناء الوطني وأحلامه التي رسمها كمال الطويل الذي عزل نفسه عن العالم إلا قليلًا خلال سنوات عمره بعد يونيو.
غناء جديد للمقاومة
رايح أوسع سكة للنور اللي جاي.. وأكتب وأكد إني حي
وأكتب على جبين الزمن.. ما تهزنيش أبدا لحد
وأفتح لي باب باسم المطر.. باسم العطاشى العرقانين
في أرضنا أرض الحراب أرض الجدود.. أرض الولاد الكادحين
هكذا بدا الطريق أمام موسيقيين وشعراء كانوا أصحاب حظ قليل في رعاية الدولة الرسمية أمثال عدلي فخري مغنيًا، وزين العابدين فؤاد، وسمير عبد الباقي شعراء، والشيخ إمام ملحنًا ومغنيًا وأحمد فؤاد نجم شاعرًا، سيد مكاوي ملحنًا وفؤاد حداد شاعرًا، ونجا الأبنودي بنفسه من الحالة الرسمية إلى شط القناة مع محمد حمام وفرقة السمسمية.
بدا واضحًا أنهم جميعًا اختاروا طريق المقاومة مصريًا وعربيًا، لذا استمرت حالتهم جميعًا في خندق معارضة الهزيمة والدولة التي استسلمت للصلح مع العدو -ما عدا الأبنودي أيضًا إلا قليلًا، وسيد مكاوي بعد تجربته مع فؤاد حداد- فصاروا جنودًا في معركة مصر وفلسطين، وتفرد عدلي مع سمير عبد الباقي بالبحث عن نماذج الثورة العالمية كما في قصيدة بابلونيردوا:
يخرس جميع الشعر تخرس القصايد
تخرس جميع الأغنيات الكدابين
يخرس ميزان الكذب في كل الجرائد.. ويخرسوا كل الكلاب المأجورين
في عز ليل الحق تخضر الأماني.. تفضل بنادق الشعوب
تكتب تاريخ الشغالين
تشعر وأنت تستمع لألحان عدلي فخري الذي ظلم كثيرًا في حياته، وأشعر بالتقصير كثيرًا تجاه إبداعه أنك مع مقاتل على جبهة قتال الكيان الصهيوني سواء في سيناء أو فلسطين، وفي الجنوب اللبناني وخاصة مع أشعار زين العابدين فؤاد.
ينتقل عدلي مع زين من صرخة الألم للفلاحين على رمل سيناء ولحم المصريين ودمهم، إلى بوابات بيروت يحرسانها من الاجتياح الصهيوني في 1982، ومن بيروت إلى المقاومة الفلسطينية، هذا كله وعدلي فخري ممسكًا بعوده في كل مكان، وكأنه مدفع رشاش في قلب الأعداء ومن يسعون للتعامل معهم أو الصلح الذي يهدر الدماء والأوطان.
وفي تجربة فريدة قدمها فخري مع الشاعر محسن الخياط في بداية الثمانينيات قدما عملًا تاريخيًا شعرًا وغناء يحكي أجزاء من تاريخ مصر في حلقات بعنوان حكايات بهية، حالة ملهمة تشبه تلك الحالة التي قدمها الشاعر المؤسس الكبير لشعر العامية فؤاد حداد حينما اختار أن يذهب إلى التاريخ في عام 1969 بعد الهزيمة بعامين بعمله الفريد في نور الخيال وصنع الأجيال في تاريخ القاهرة، وقدم خلالها نماذج من التاريخ المقاوم للشعب المصري والعربي، فقدم نماذج مثل صلاح الدين الأيوبي، محمد عبيد فارس ثورة عرابي، ثورات القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية، عبد الله النديم صوت ثورة عرابي، عبد المنعم رياض شهيد مصر في حرب الاستنزاف.
ذهب أيضًا فخري مع الخياط للتاريخ وقدما حلقات مشابهة، وبينما رعت الإذاعة المصرية عملين لحداد هما نور الخيال، والحضرة الذكية في عصر كان يقاوم، لم يجد فخري والخياط تلك الرعاية بعد الصلح مع الكيان الصهيوني الذي أبرمه أنور السادات، فقد أعلن نهاية عصر المقاومة للأعداء وبدأ عصر الخنوع والاختراق مع المعاهدات، فطاف بها عدلي على مسارح الفقراء ومن بقي من أنظمة كانت لا تزال تقف في وجه الأعداء:
حبسوا النهار في القلعة.. الشعب قال الضي جاي منين
حبسوا النهار في القلعة.. الضي طل ونور الميادين
حبسوا النهار في القلعة.. لمحوا النهار طالع م الزنازين
ولا تزال في مشوار الأغنية البديلة حكايات أخرى بذهاب الأبنودي ومحمد حمام إلى شط القناة بعد يونيو ليشاركوا فرقة السمسمية والكابتن غزالي المقاومة والغناء، وفي جانب آخر كان الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم يرسمان خطًا غنائيًا مختلفًا في الجلسات السرية والأغنيات المسربة على شرائط الكاسيت، يواجهان الهزيمة بالمقاومة وسلطة السلام الزائف بالأغنيات بين شباب الجامعات، وما زلنا نقاوم.
سكك السفر سبعة والموت طريقه واحد
وأنتي اللي في القلعة تطلع ونتعاهد
وطن مسافر من وطن صابرة
صابرة هنا والسفاحين على الباب
ختام: الأشعار جميعًا للشاعر الكبير زين العابدين فؤاد ما عدا المسند لمبدعيه سمير عبد الباقي بابلونيردوا، وحبسوا النهار من حكاية النديم لمحسن الخياط.