نبلاء اليسار المصري في ذكرى نبيل الهلالي

ليس كل ما يلمع ذهبا، وليس كل يساري صادقا مع نفسه، لقد كشفت الاختبارات الكبرى زيف الادعاءات حول التغني بالحرية وحقوق الإنسان، ومناصرة المستضعفين والفقراء، عشر سنوات مرت على مصر منذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، لعب فيها اليسار في غالبيته دورا قبيحا في تثبيت الدكتاتورية، ودعم الانقلاب على الديمقراطية، مكررا أخطاء تاريخية، ورافضا مراجعة تلك الخطايا والاعتذار عنها في الوقت الذي يطالب غيره بالمراجعات والاعتذارات.
وإذا كان لكل قاعدة استثناء فإننا نستثني مما سبق رموزا يسارية نبيلة، صدقت مع نفسها، ومع مبادئها، ولم تنحن للعواصف، وماتت كالأشجار واقفة، ولا يعني أننا نختلف معها فكريا أن ننكر ثباتها، أو دورها في الدفاع عن الحقوق والحريات، وفي مواجهة الفقر والظلم والظلمات، وأنها كانت جسرا متينا للتواصل مع غيرها من التيارات المخالفة، وخاصة التيار الإسلامي.
مناسبة هذا الحديث هو مرور الذكرى السابعة عشرة لوفاة المحامي والحقوقي أحمد نبيل الهلالي (توفي في 18 يونيو/حزيران 2006)، وكان رمزا كبيرا من رموز الحركة الوطنية المصرية منذ السبعينيات وحتى وفاته، وكان يوصف بأنه قديس اليسار، أو قديس الحركة الوطنية، لزهده وتفانيه في خدمة الوطن والمواطنين. هو سليل البرجوازية المصرية في أعتى صورها، لكنه تمرد عليها مبكرا ليقف في الصف المعارض بقوة لها (انضم إلى حركة حدتو الشيوعية عام 1948)، والده نجيب باشا الهلالي آخر رئيس للوزراء في العهد الملكي، ووزير المعارف في عدة حكومات وفدية سابقة، وقد تعرّض الهلالي الابن للاعتقال مرتين في عهد عبد الناصر، أولاهما من 1959 لمدة خمس سنوات، والثانية من 1965 لمدة 4 سنوات.
التمرد على البرجوازية
رغم أصوله البرجوازية فإن نبيل الهلالي انحاز إلى الفقراء والمهمشين مبكرا، ويحكي في محاضرة له في نقابة الصحفيين -قبل أقل من عام من وفاته- أن هذا التمرد على طبقته الاجتماعية نتج عن معايشته للمطبخ الداخلي للمجتمع البرجوازي وتعرّفه على الوجه “الكالح القبيح” للرأسمالية، كما حكى موقفا إنسانيا صادفه في مطلع حياته حين شاهد حفنة من الأطفال الفقراء يلحسون بألسنتهم “فاترينة” محل حلويات، مما دفعه إلى التساؤل: لماذا يعاني هؤلاء الأطفال من البؤس بينما هو (الهلالي) وأسرته غارقون في النعيم؟ ولماذا هذه الفجوة الهائلة بين الفقراء والأثرياء؟!
كان مكتب الهلالي للمحاماة يغص بالعمال والفلاحين والمهمشين من أصحاب القضايا، الذين كان يتكفل بالدفاع عنهم مجانا، لكن ذلك لم يكن الجانب الوحيد من الصورة، فقد تكفل الرجل بالدفاع عن خصومه الفكريين من الجماعات الإسلامية أيضا، مخالفا بذلك موقفا يساريا عاما مناهضا لتلك الجماعات ومتهما إياها بالرجعية والإرهاب.
لا أنسى دفاعه المجاني عني وعن زملاء صحفيين آخرين في قضية ضباط التعذيب في العام 1989 الذين برأتهم المحكمة في حين وجّهت لي ولزملاء صحفيين آخرين بينهم 3 رؤساء تحرير لصحف الوفد (مصطفى شردي) والحقيقة (محمد عامر) والنور (مؤمن الهباء) تهمة التأثير على المحكمة من خلال تغطيتنا لوقائع المحاكمة، وانتدبت عضو اليمين في المحكمة حينئذ (المحافظ لاحقا) المستشار عدلي حسين لمباشرة التحقيق معنا، الذي وجد نفسه في مواجهة كتيبة من المحامين من مختلف الاتجاهات يتقدمهم الهلالي رحمه الله، فانتهى إلى أنه “لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية”.
دفاع عن الإسلاميين
واجه الهلالي انتقادات من رفاقه الشيوعيين بسبب دفاعه عن الإسلاميين، واتهموه بتقديم الدعم القانوني للإرهاب، لكنه رد عليهم في محاضرته بأن موقفه ينطلق من إيمانه العميق الذي لا ولن يتزعزع بأنه في مجال حقوق الإنسان لا مكان للانتقائية في المواقف والازدواجية في المكاييل، بل هناك فقط موقف مبدئي واحد وأصيل هو الدفاع عن حقوق كل إنسان أي إنسان، أيّا كانت عقيدته الدينية أو اعتقاده السياسي، الدفاع عن الإنسان المجرد وليس الإنسان المصنف، وأن المعيار الأوحد الذي يحدد من هو الإنسان هو إنسانيته وليس دينه أو لونه السياسي أو أيديولوجيته.
لم يكتف الهلالي بهذا الرد المبدئي بل استحضر درسا تاريخيا، ففي أواخر الخمسينيات (خلال فترة حبسه) أصدر الحاكم العسكري أمرا عسكريا يبيح تشغيل المعتقلين أشغالا شاقة داخل المعتقلات. وقد تعامل الشيوعيون واليساريون وقتها مع هذا الأمر العسكري باستخفاف توهما منهم بأنهم غير مخاطبين به، لا في الحال ولا في الاستقبال، وأنه صدر للتعامل مع المعتقلين من الإخوان المسلمين، ودارت دورة الزمان، فإذا بالأمر العسكري المذكور يطبَّق لأول مرة ولآخر مرة على المعتقلين الشيوعيين واليساريين داخل سجن “أوردي أبو زعبل” في أواخر عام 1959.
نبلاء راحلون وأحياء
لم يكن نبيل الهلالي أول ولا آخر النبلاء اليساريين الذين صدقوا مع أنفسهم ومع خياراتهم، ولم يجترحوها بسوء، فد سبقه نبيل رسمي هو النبيل عباس حليم (مواليد الإسكندرية 1897)، لم يكن الرجل شيوعيا أو حتى يساريا بالمعنى المعروف، لكنه رغم انتمائه إلى الأسرة العلوية الحاكمة (أسرة محمد علي باشا) فإنه انحاز إلى العمال، ودعم تأسيس نقابات عمالية بل إنه قبل رئاسة اتحاد العمال مطلع الثلاثينيات.
ومن النبلاء اليساريين نذكر أيضا الكاتب الصحفي الراحل محمد سيد أحمد سليل عائلة إسماعيل صدقي باشا رئيس وزراء مصر الأسبق ونجل محافظ أسبق، ولا يمكن أن ننسى التلميذ النجيب للهلالي، وهو المحامي والحقوقي أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح، الذي وقف ضد الانقلاب منذ لحظاته الأولى وحتى وفاته في أغسطس/آب 2014، كما كان مثل أستاذه الهلالي مدافعا مخلصا عن الجميع بمن فيهم خصومه الفكريون، وتعرّض بدوره لاعتقالات عديدة انتقلت إلى أبنائه علاء وسناء، ومثله في ذلك الحقوقي الراحل هشام مبارك، وممن زاملنا من اليساريين النبلاء لا يمكن أن ننسى الصحفيين الراحلين سمير تادرس وموسى جندي ورجائي الميرغني وساهر جاد ومحمد منير، ولا الأحياء أبو المعاطي السندوبي وكارم يحيى وهشام فؤاد، والناشط هيثم محمدين ورفاقه في حركة الاشتراكيين الثوريين.