الدخل الضائع بالموازنة المصرية

مبنى وزارة المالية المصرية

 

المعتاد في كل بلدان العالم أن تتوجه حصيلة الضرائب والرسوم التي تفرضها الحكومات، للإنفاق على سبل تحسين المستوي المعيشي والخدمات للمواطنين، من خدمات صحية وتعليمية ومرافق، إلى جانب رعاية الفئات الفقيرة من خلال صور الدعم النقدي والغذائي..

وكذلك تدبير احتياجات ولوازم الجهات الحكومية كي تستطيع أداء خدماتها للجمهور بكفاءة، ومنح العاملين بتلك الجهات أجورا مناسبة تمنع لجؤهم إلى أساليب غير مشروعة لمواجهة تكاليف المعيشة.

ومع وجود دين حكومي محلي وخارجي، قامت الموازنة المصرية مثل غيرها من الدول، بتخصيص جزء من الإنفاق بها لفوائد وأقساط الدين الحكومي، لكن مع تضخم ذلك الدين الحكومي، أصبح المخصص بها لفوائد وأقساط الدين يستحوذ على النسبة الأكبر من الإنفاق، وذلك بالطبع على حساب باقي أنواع الإنفاق، ومع استمرار الاقتراض المحلي والخارجي من قبل الحكومة، زاد نصيب تكلفة الدين بإنفاق الموازنة حتى أنها أصبحت أكبر من مجموع موارد الموازنة!

ففي ختام موازنة العام المالي 2021/2022 التي أقرها البرلمان قبل أسابيع، بلغت موارد الموازنة 1.369 تريليون جنيه، موزعة ما بين: 991 مليار جنيه من الضرائب و352 مليار جنيه من الإيرادات غير الضريبية، و23 مليار جنيه من متحصلات الإقراض ومبيعات الأصول و4 مليارات جنيه من المنح..

بينما بلغت تكلفة الدين بالموازنة 1.110 تريليون جنيه، ما بين 585 مليار جنيه لفوائد الدين و525 مليار جنيه لأقساطه، وهو ما يعني بقاء 259 مليار جنيه من حصيلة الموارد بعد استنزال تكلفة الدين، مطلوب الإنفاق منها على باقي أبواب الموازنة الستة، من أجور واستثمارات ودعم ومستلزمات حكومية، ولأن المتبقي من الموارد لن يكفي فإن الحل دائما هو المزيد من الاقتراض المحلي والخارجي.

             1.7 تريليون جنيه دخل ضائع بالعام الحالي

وتوقعت بيانات وزارة المالية تكرار نفس المشهد ولكن بصورة أصعب، بموازنة العام المالي الحالي الذي سينتهي آخر الشهر الحالي، إذ تتوقع الوزارة بلوغ الموارد 1.584 تريليون من مختلف المصادر، بينما تبلغ تكلفة الدين من فوائد وأقساط 1.741 تريليون جنيه، أي أكبر من موارد الموازنة بنحو 157 مليار جنيه، مما يعني اللجوء للاقتراض للإنفاق على باقي بنود الموازنة من أجور واستثمارات ودعم وخلافه.

ويزداد الموقف سوءا في موازنة العام المالي الجديد الذي يبدأ مطلع الشهر المقبل، ببلوغ الموارد 2.209 تريليون جنيه، بينما تبلغ تكلفة الدين من فوائد وأقساط 2.436 تريليون جنيه، أي بزيادة تبلغ 227 مليار جنيه عن الموارد، مما يعني استمرار الاقتراض للوفاء بباقي قيمة تكلفة الدين، إلى جانب الوفاء بمتطلبات باقي أبواب الموازنة الستة.

وهو ما يشير إلى أن حصيلة الضرائب المتوقعة بالعام المالي الجديد البالغة 1.530 تريليون جنيه، والتي سيتم تحصيلها من العديد من أنواع الضرائب والرسوم، إلى جانب 610 مليارات جنيه تمثل إيرادات من الهيئات والشركات والبنوك المملوكة من الحكومة وما تفرضه الوزارات من رسوم، وكذلك متحصلات الإقراض الحكومي ومبيعات الشركات الحكومية البالغة 67 مليار جنيه، والمنح التي ستحصل عليها الحكومة والبالغة 2 مليار جنيه.

كل تلك الموارد البالغ مجموعها 2.209 تريليون جنيه عبارة عن دخل ضائع لن يستفيد المواطنون منه في شيء، فكله موجه لسداد فوائد وأقساط الدين الحكومي بل إنه لن يكفي لكامل خدمة الدين الحكومي، وتلك هي الكارثة الموجودة أيضا بموازنة العام المالي الحالي الباقي منه حوالي أسبوع، بضياع الدخل الذي بلغ مجموعه بها 1.584 تريليون جنيه، دون أن يستفيد منه المواطنون منه في شيء، فكله موجه لسداد فوائد وأقساط الدين الحكومي بل إنه لن يكفي لكامل خدمة الدين الحكومي.
ولهذا شهدنا صدور القانون 30 لسنة 2023 الذي صدر منتصف الشهر الحالي، بتعديل ضريبة الدخل لرفع الحد الأقصى للضريبة من 25 % الي 27.5 % للحصول علي مزيد من الحصيلة، ورافقه بنفس اليوم القانون 31 الذي عدل ثلاثة قوانين ضريبية هي: الدمغة ورسم التنمية والملاهي..

لفرض المزيد من الرسوم على العديد من السلع والأنشطة لتحصيل المزيد من الرسوم، وهو ما نتوقع استمراره خلال الشهور المقبلة خاصة من جانب الوزارات، والهيئات الحكومية والمحافظات ومديريات الخدمات بالمحافظات التي ترفع رسوم خدماتها تدريجيا.

 البطاقات التموينية 1.5% من الدخل الضائع

ولنا أن نتخيل كيف كان هذا الدخل الضائع بموازنة العام المالي الجديد، يمكن أن يسهم في تحسين حياة المواطنين لو تم توجيهه إلى الأولويات الجماهيرية، فرغم إقرار حاكم البلاد في أكثر من مناسبة بأن العدد الموجود من المستشفيات، يمثل نصف الاحتياجات الحقيقية للسكان ونفس الأمر بالنسبة لعدد الأطباء، نجد مخصصات الصحة بموازنة العام المالي الجديد 148 مليار جنيه، أي بنسبة 6% من الدخل الضائع المتجه لتكلفة الدين الحكومي.

ورغم أن الدستور قد قرر على ألا تقل نسبة المخصص للصحة بالموازنة عن نسبة 3%، وذلك عام 2014 وتزيد سنويا حتى تصل إلى المعدلات العالمية، نجد أن نسبة المخصصات للصحة تصل إلى 1.2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي بموازنة العام المالي الجديد.

وهو ما تكرر مع مخصصات التعليم البالغة 230 مليار جنيه للتعليم الجامعي وقبل الجامعي معا، والتي تمثل نسبة 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما نص الدستور على ألا تقل النسبة عن 4% للتعليم قبل الجامعي وحده، وعلى ألا تقل النسبة عن 2% للتعليم الجامعي، أي بمجموع 6%، بينما لم تصل نسبة المخصص لهما إلى 2%.

ويمكن مقارنة باقي بنود الإنفاق بالموازنة بالمخصص لتكلفة الدين، حيث يمثل المخصص للاستثمارات الحكومية وما تتضمنه من مشروع حياة كريمه نسبة 24% من تكلفة الدين، كما يمثل المخصص للدعم لكل الجهات أقل من 22% من تكلفة الدين، أما مخصصات مستلزمات العمل بالأجهزة الحكومية وشراء المستلزمات الطبية بالمستشفيات التعليمية، والكتب المدرسية وغيرها فتمثل نسبة 6% من مخصصات تكلفة الدين..

وكذلك مخصصات البطاقات التموينية البالغة 36 مليار جنيه، والتي يضغط صندوق النقد الدولي للتقليل منها، وتقوم وزارة التموين برفع أسعارها دوريا بما يؤدي لتقليل كميات السلع بها، لا تمثل سوى نسبة 1.5% من الدخل الضائع بموازنة العام المالي الجديد، وحتى مخصصات معاشات الضمان الاجتماعي وتكافل وكرامة، ودعم التعليم المجتمعي للمتسربين من التعليم والبالغ مجموعها 31 مليار جنيه، فتمثل نسبة 1.3% من الدخل الضائع.

ولهذا ظلت مبالغها متدنية والتي وصلت بعد الزيادة الأخيرة لها، بمعاشات الضمان الاجتماعي 404 جنيهات شهريا للأسرة المكونة من فرد واحد، و450 جنيها شهريا للأسرة المكونة من فردين، و516 جنيها شهريا للأسرة المكونة من ثلاثة أفراد، و563 جنيها شهريا للأسرة المكونة من أربعة أفراد فأكثر، ومعاش تكافل 530 جنيه للأسرة ومعاش كرامه 563 جنيها للفرد.

رغم أن حد الفقر الرسمي الصادر عن جهاز الاحصاء الحكومي قد بلغ 857 جنيه شهريا، قبل مارس/ آذار 2020 أي قبل كورونا وموجة التضخم العالمي، وقبل الحرب الروسية الاوكرانية بتداعياتها على أسعار الغذاء، وقبل انخفاض سعر صرف الجنيه أمام الدولار العام الماضي والحالي وأثره على أسعار الغذاء، مما يعني أن حد الفقر حاليا أكبر من ذلك بكثير، لكن مستحقي معاشات الضمان الاجتماعي كأسر وتكافل وكرامه، لا يحصلون حتى على حد الفقر للفرد المحدد قبل مارس/ آذار 2020.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان