التضحية بالطيور بين الفتوى والمسؤولية

شيوخ السلطة لا تنتهي حيلهم الفقهية التي يقدمونها للناس، بغية التبرير للسلطة، ومن شيوخ السلطة في مصر الذين يتفننون في ذلك: الدكتور سعد الدين الهلالي، ومن آخر فتاواه التي أثارت الجدل كالعادة، وقوبلت بسيل من السخرية من عموم الناس، فتواه بجواز الأضحية بالدجاج والديكة، وبسائر الطيور، حتى كتب أحد المعلقين ساخرا: انتظروا قليلا، لعل الشيخ فلان (شيخ آخر من شيوخ السلطة)، يفتينا بأن نضحي بسلق بيضتين!!
وسوف نتناول في مقالنا هذا الموقف الفقهي، ثم نربط بين الفتوى المطروحة، وبين الواقع المعيش، وواجب الفقيه في المزاوجة بينهما، لا الفصل.
فتوى تركية سابقة للهلالي
وسعد الهلالي ليس أول من قال بهذا الرأي من المعاصرين، فقد سبقه إلى ذلك مشايخ أتراك، عندما تعرضت تركيا لأزمة اقتصادية خانقة، هبطت على إثرها الليرة التركية عام 1999م، مما حدا بهؤلاء المشايخ إلى إصدار هذه الفتوى، بأن يضحي الناس بالدجاج والطيور، ودفعت هذه الفتوى طلبة العلم والمهتمين بإرسال سؤال إلى العلامة المرحوم الشيخ القرضاوي، ورد على سؤالهم بفتوى نذكرها في سياقها.
رأي قديم لابن حزم
وهذا الرأي الفقهي هو قول انفرد به الإمام ابن حزم، حيث قال: “والأضحية جائزة بكل حيوان يؤكل لحمه من ذي أربع، أو طائر، كالفرس، والإبل، وبقر الوحش، والديك، وسائر الطير والحيوان الحلال أكله، والأفضل في كل ذلك ما طاب لحمه وكثر وغلا ثمنه”.
واستدل ابن حزم على رأيه بعدة أدلة، مثل قول بلال: ما أبالي لو ضحيت بديك، وما ورد عن ابن عباس في ابتياعه لحمًا بدرهمين وقال: هذه أضحية ابن عباس.
واستدل على رأيه أيضا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل المهجر إلى الجمعة كمثل من يهدي بدنة، ثم كمن يهدي بقرة، ثم كمن يهدي بيضة”. وقوله صلى الله عليه وسلم: “من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة”.
يعلق ابن حزم على الحديثين قائلا: “ففي هذين الخبرين هدي دجاجة، وعصفور، وتقريبهما، وتقريب بيضة؛ والأضحية تقريب بلا شك، وفيهما أيضا فضل الأكبر فالأكبر جسما فيه ومنفعة للمساكين، ولا معترض على هذين النصين أصلا”.
دار الإفتاء تفند رأي الهلالي
وبعد تبني الهلالي لهذا القول لابن حزم، وترديده في الفضائيات، وكأنه هو الأصل المعتمد، بدأ الناس يتساءلون عما يطرحه الهلالي، فقد ورد لدار الإفتاء المصرية سؤال بهذا النص: “بعض المتصدرين يروج للقول بجواز التضحية بالطيور، وأن بعض الصحابة فعل هذا، فما مدى صحة هذا الكلام؟”، وربما يكون السؤال مطروحا من الدار لكثرة تشغيب الهلالي بالكلام في الإعلام.
وأجابت دار الإفتاء المصرية في موسوعة أطلقت عليها: “الفتاوى المؤصلة من دار الإفتاء المصرية”، ففندت رأي ابن حزم الذي استند إليه الهلالي بأن الآيات والأحاديث التي وردت في ذبح الهدي والأضحية كلها جاءت في بهيمة الأنعام، ولم يرد مطلقا ورود الطيور، وأن إجماع الأمة على هذا وعلى عدم التضحية بالطيور، ثم قالت عن رأي الهلالي: “والرأي القائل بجواز التضحية بكل حيوان يؤكل لحمه رأي شاذ لم يعول عليه أهل العلم، حتى رأيناهم قد حكوا الإجماع على خلافه متجاوزين إياه”.
وقد صرح بهذا الإمام ابن عبد البر في الاستذكار فقال: “وقد أجمع العلماء أنه لا يجوز في العقيقة إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية، إلا من شذ ممن لا يعد خلافا.
وما ورد في مصنف عبد الرزاق بسند ظاهره الصحة عن بلال رضي الله عنه من قوله: “ما أبالي لو ضحيت بديك، ولأن أتصدق بثمنها على يتيم أو مغبر أحب إلي من أن أضحي بها”، يحتمل أنه أراد الإشارة إلى أن الأضحية ليست بواجبة، لا أنه على الحقيقة.
وأما لو حمل ظاهره فهو مجرد اجتهاد من الصحابي، لكنه مخالف لما قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليه فإن الأضحية لا يجزئ فيها إلا أن تكون من الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغنم، والرأي القائل بجواز التضحية بكل حيوان يؤكل لحمه، رأي ضعيف، غير معتبر في الإفتاء، ومخالف لعمل الأمة المستقر”.
فتوى القرضاوي ردا على الفتوى التركية
ذكرنا أن هناك فتوى سبقت فتوى الهلالي بعشرين عاما، صدرت عن مشايخ أتراك، بسبب الظروف الاقتصادية في بلادهم، وقد أرسلت للقرضاوي للإفتاء فيها، فبين القرضاوي أن الأضحية تكون من بهيمة الأنعام، وأنها على أهل القدرة المادية، فهي ليست واجبة، إلا عند المذهب الحنفي.
ثم بين القرضاوي في فتواه المنضبطة جدا، والمتزنة من نواحيها المختلفة، أن المسلم ليس مضطرا للتضييق على نفسه في مسألة الأضحية، ورد على من يستدلون بجواز التضحية بالطيور، فقال: “وإذا كانت التضحية سنة، فلا إثم على من تركها حتى في حالة السعة، فما بالك في حالة العسر والأزمة الاقتصادية؟
ففي هذه الحالة تسقط هذه السنة عن العاجز عنها، ولا لوم عليه، لأن الفرض يسقط بالعجز عنه، فكيف بالسنة؟
وفي هذه الحالة ليس عليه أضحية على الإطلاق، ويمكن أن نعبر عن ذلك مجازا بأن أضحيته ما قدر عليه، وكان في وسعه: من دجاج أو بط، أو أوز، أو أرانب، أو حمام أو غير ذلك مما يعرفه الناس من الدواجن والطيور.
وقد رُوي أن ابن عباس رضي الله عنهما اشترى لحما بدرهم، وقال: هذه أضحية ابن عباس، أي هذا ما كان في وسعه، فهي أضحية مجازا”.
ثم بين القرضاوي المأخذ المهم سواء على فتوى بعض المشايخ الأتراك آنذاك، أو ما يستدل به الهلالي حاليا، وإن لم يكن رد القرضاوي عليه تحديدا، ففتوى القرضاوي كذلك قديمة، فقال: “على أن هناك مأخذا عاما على الفتوى التركية، وهو تعميمها على جميع الأتراك بإجازة التضحية بالدجاج لعمومهم. وهذا التعميم غير صحيح ولا مقبول، إذ في الأتراك كثيرون -ولا شك- موسرون قادرون على التضحية المشروعة المعروفة، بل منهم كثيرون من الأثرياء الذين يمتلكون ثروات طائلة، فهؤلاء لا يفتى لهم بأن يضحوا بالدجاج”.
من الذي أحوج الناس للتضحية بالطيور؟
إلى هنا يتضح الموقف الفقهي، باختلاف اتجاهاته في المذاهب القديمة، والفتاوى المعاصرة في المسألة، لكن ما يغيب عن الهلالي ومعظم شيوخ السلطة -عن عمد- في كل مكان وزمان، أنهم يناقشون أحكام الفقير، ولا يناقشون من الذي أفقره؟ ومن الذي وصل بالناس إلى هذا الحال، في بلد يفتيها شيخ بالتضيحة بالطيور، وخاصة الدجاج، هذا الشيخ يرى الناس منذ شهور يتحدثون عن أرجل الدجاج وأكلها، وليس عن أكل الدجاج نفسه، وبدأ الإعلام السلطوي يتحدث عن قيمة وفوائد أرجل الدجاج، وطرق طهيها بأنواع وألوان مختلفة!!
إن من أمانة الكلمة، وأمانة الفتوى الحقيقية، أنه بدل أن نحدث الناس عن سنة الأضحية، التي إن لم يفعلوها لم يأثموا، ينبغي أن نتحدث عن الفرائض، وعن الضرورات والحاجات المطلوب توافرها للمواطن، التي يسأل عنها الحاكم والسلطة، بدل أن نذهب لترقيع واقع الفقير، فنذهب لنبحث له عن رأي فقهي يجيز التضحية بالطيور، بينما نخفي عنه آراء أخرى، في حقه في المال العام، وحقه في توفير ضرورات الحياة له، لن نتحدث عن ضروراته السياسية، بل نتكلم عن ضروراته المعيشية.
ثم لماذا الأخذ برأي ابن حزم في التضحية بالطيور، ولا يأخذ الهلالي برأي ابن حزم في الآراء السياسية، في حق المواطن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو في كلام ابن حزم في حق الإنسان المالي عند احتياجه إلى المال عند السلطة، وماذا لو منعته السلطة هذا الحق؟ وهو كلام في غاية القوة والأهمية، وقد تناوله بإسهاب الدكتور محمد فتحي عثمان رحمه الله في كتابه “آراء من تراث الفكر الإسلامي”.