الحرية “للغنوشي”.. شهادة صحفي مصري

كوني أدافع عن حريتك وحقوقك لا يعني أنني أتفق معك بالكامل في آرائك أو لا أنتقد ممارساتك.
هذه العبارة لا بد منها في البداية، لكنني أشك أنها تقطع الطريق تماما على ما قد يجلب هذا المقال على كاتبه من خصومات أصدقاء أعزاء ومصادر صحفية مهمة في تونس، وهو الذي ظل حريصا على انفتاح مهني يجمعه بمختلف فرقاء الفكر والسياسة هناك، وبخاصة عندما كان مراسلا “للأهرام” مقيما بين عامي 2016 و2018، وقبلها خلال زيارات عمل بدأت في سبتمبر/أيلول 2011 وامتدت إلى أكتوبر/تشرين الأول 2019.
ولأن كاتم الشهادة آثم قلبه، أكتب اليوم من واقع ما كنت شاهدا عليه وبحضوري، وأيضا بعد مراجعة نصوص أربعة كتب للأستاذ “راشد الغنوشي” كنت قد طالعتها فور صدورها في طبعتها التونسية الأولى عام 2011 (*)، ودونت في هوامشها ملاحظات محفوظة بالقلم الرصاص، بعضها محل اتفاق والآخر يفيد الاعتراض ويحمل الشك والتساؤل، لكن في كل الأحوال لم يكن في هذه الكتب كلمة أو سطر واحد يحرض على عنف أو إقصاء أو استئصال، بل هي تتضمن توثيقا لمراجعات ونقد ذاتي.
وأعود اليوم إلى حوارين مع “الغنوشي” أجريتهما كصحفي قادم من مصر وغير محسوب على الإسلاميين قبيل انتخابات المجلس التأسيسي 2011، ومع ذروة أزمة سياسية وضربات للإرهاب في نوفمبر/تشرين الثاني 2012. ونشرت “الأهرام” الأول بعنوان “حزب النهضة قادم إلى الحكم بخطاب حداثي” في عدد 11 أكتوبر 2011 (**). وأجدني لم أكن في موقع المجامل، فلم أتوقف عن أسئلة لا تخلو من إحراج وشكوك، بما في ذلك حول شبهات عن علاقته بـ”التنظيم العالمي للإخوان” وسلفيين متطرفين والإرهاب وعن ازدواجية الخطاب، وحتى ما كان يتردد كذبا عن زواجه بثانية على نحو يجرمه القانون في تونس، ولم يغضب أو يُنهِ الحوار، بل وافق على لقاء صحفي آخر مع المحاور نفسه.
أكثر تقدما من الإخوان
ومنذ المقابلة الأولى، بدا الرجل وحزبه أكثر تقدما وبمراحل عما كانت عليه أحوال وخطاب “الإخوان” وحزب “النور” السلفي في مصر، وكانا يتأهبان لتصدر أي انتخابات أو استفتاءات بعد ثورة يناير. وبالطبع لا ازدواجية تبقي جماعة إلى جانب حزب سياسي، كما كان ويظل من الظلم البيّن إنكار اجتهاد “الغنوشي” للمواءمة والجمع بين الإسلام والديمقراطية والحداثة، أصاب ونجح أو أخطأ وفشل.
بل تنبهت حينها إلى ما ينطوي عليه نشر ملامح البرنامج الانتخابي “للنهضة” تحت عنوان “إسلاميون لا ينادون بالشريعة” في “الأهرام” من حرج لحزبي “الإخوان” والسلفيين، ومن حيث كذلك الاقتصاد الشديد في الاقتباس من النصوص الدينية والإسراف في التشديد على التحديث والحداثة وحقوق الإنسان الكونية، والنص صراحة على السلطة للشعب وعلوية الدستور والقانون، وغيرها من أمور تخرج “الغنوشي” و”النهضة” من الصورة النمطية للإسلام السياسي. ومما لا يخلو من دلالة أن النشر لم يتأخر وحسب حتى 22 أكتوبر 2011، بل بدا الحرص على عدم الإبراز في وقت اقترحت على رئيس التحرير في عهد انفراد المجلس العسكري بالحكم اتخاذه منطلقا لحوار نقدي مع الإسلاميين عندنا حول اختلاف خطاباتهم في هذه القضايا عن “النهضة”.
وخلال إقامتي في تونس، حضرت العديد من المناسبات، استقبله خلالها خصوم غاضبون بشعارات اتهامية خطيرة مستفزة وجارحة، ومن بينها مناسبة أربعينية وفاة السياسية والمناضلة “مية الجريبي” بمدينة الثقافة يوم 30 يونيو/حزيران 2018، فصمد هدوء الرجل ومرافقيه، ولم ينسحب أو يحتج، أو تدفع ذاتيته واللحظة إلى أزمة وتداعيات تشوش على المناسبة.
سعة صدر الغنوشي
وبعدها وخلال متابعتي في القاهرة جلسات البرلمان على الهواء من التلفزة التونسية مع رئاسته، أتيح لي مقارنة جاءت في صالح “الغنوشي” مع سلفه من حزب نداء تونس “محمد الناصر”، وهو أحد رجال عهد الرئيس “بورقيبة”، وهذا لأنني كنت حاضرا في شرفة الصحفيين بالبرلمان يوم 24 مارس/آذار 2018 مع مناقشة التمديد في عمل “هيئة الحقيقة والكرامة” المعنية بانتهاكات ما قبل الثورة، عندما قطع “الناصر” أكثر من مرة المصدح (الميكروفون) عن نواب معارضين كي لا يمكنهم من مجرد الإشارة إلى معلومات تتصل بماضيه في دولة ما قبل الثورة وبعثاتها في الخارج. وظلت المقارنة تترسخ عندما كنت أشاهد “الغنوشي” يتلقى مرارا بسعة صدر ما يتجاوز النقد لأدائه بصفته مسؤولا وسياسيا إلى الاتهامات المرسلة والسباب لشخصه.
ولأن كاتم الشهادة آثم قلبه وبخاصة إزاء حبس رجل فكر وسياسة نحو ما يزيد على نصف قرن وتجاوز قبل أيام عامه الثاني والثمانين، لا يفوتني في هذه العجالة الإشارة إلى ما يلي:
ـ طوال متابعتي أحوال تونس بعد الثورة، لم أطلع على دليل قاطع مقنع من خصوم “الغنوشي” أو أي سلطة أو هيئة مختصة مستقلة تريح ضميري كي أنضم إلى اتهامه بالتورط في عنف أو إرهاب، بل كان واضحا ومنطقيا وبالشواهد والعواقب أن “النهضة” في الحكم هي التي تضررت وأكثر الخاسرين من هذه الوقائع، وبخاصة بين 2012 و2013.
ـ أدهشني النبش في تاريخ ما قبل الثورة وبالاستناد إلى سردية وسياق وقوانين حكم استبدادي ثار عليه التونسيون من أجل اتهام “الغنوشي” وإدانته. وطالما استدعت هذه “المحاكمات الإعلامية المعنوية” عندي المقارنة مع انتقال “الشين فين” في أيرلندا من “جيش جمهوري” متهم بالإرهاب إلى حزب سياسي يفوز في الانتخابات.
ـ استغربت هذا التكثيف في الهجوم على “الغنوشي” و”النهضة” بينما القليل من السهام تستهدف غلاة السلفيين و”حزب التحرير الإسلامي” في تونس.
ـ لا يحمل الرجل سواء في كتبه الفكرية أو خطابه السياسي خارجها عداء جهولا وقاطعا تجاه العلمانية، بل هو يرفض صراحة وصاية الدولة أو أي كان على الدين أو ادعاء النطق باسمه.
وفي المحصلة، فإن “الغنوشي”، كغيره ومن بينهم خصومه في الساحة السياسية بتونس، أخطأ، وكانت أخطاؤه من بين أسباب إهدار فرص نجاح استكمال مسار ثورة تونس، وبالطبع فإنه حوسب ويحاسَب وسيحاسَب سياسيا على أخطائه، ويتقدم هذه الأخطاء في اعتقادي: التمادي في المرونة/الانتهازية السياسية والتحالف مع قوى النظام السابق على الثورة، والفشل في تفعيل الديمقراطية الحزبية الداخلية، والتشبث بالسلطة مع تقدم العمر. لكن المحاسبة عليها وغيرها تظل من اختصاص المواطنين التونسيين عبر صندوق الانتخاب ومسؤولية أعضاء حزبه، وبمداومة النقد من الصحافة والمجتمع المدني والطيف السياسي. ولو افترضنا أن الرجل يستحق المحاكمة، فهل السياق الحالي في تونس يطمئننا إلى جديتها وعدالتها وتحصينها بعيدا عن الاستغلال السياسي لسلطة مأزومة اقتصاديا واجتماعيا أيضا؟
***
وفي كل الأحوال، لا يحول أي اختلاف أو خطأ سياسي دون المطالبة بحرية “الغنوشي” ومعه كل معارضي أي سلطة مستبدة أمس واليوم وغدا. وبالطبع لو كنت أرى إمكانية نشر هذا المقال في صحف أصدقائي بتونس المعارضين “للغنوشي” لما ترددت، لكن “في فمي ماء”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) هذه الكتب هي: “من تجربة الحركة الإسلامية في تونس”، و”مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني”، و”الحريات العامة في الدولة الإسلامية”، و”المرأة بين القرآن وواقع المسلمين”.
(**) نص الحوار الأول منشور أيضا في كتاب “نظرتان على تونس من الدكتاتورية إلى الديمقراطية” الصادر من القاهرة وصفاقس عام 2012، والثاني في كتاب “الديمقراطية الصعبة: رؤية مصرية للانتقال التونسي” الصادر من تونس عام 2016، والكتاب الأخير تتوافر منه نسخة “بي دي إف” بشبكة الإنترنت.