هل يشهد العالم العربي نهضة صحفية جديدة؟!

تعودت في حياتي العلمية أن أطرح أسئلة جديدة تثير الخيال، وعندما يتقدم باحث يطلب إشرافي على رسالته للماجستير أو الدكتوراه، فإنني أنظر أولا في الأسئلة التي يطرحها في مشروعه، وأنا أرى أن إدارة المناقشة الحرة حول كل قضايا الوطن بشجاعة ووضوح أهم وظائف الصحافة، وأن هذه المناقشة تجذب الجماهير، لذلك أطرح سؤالا جديدا هو: هل يمكن أن نبني قوة إعلامية للأمة العربية باستخدام الصحافة المطبوعة، وهل يمكن أن نخطط لنهضة صحفية جديدة؟!
لماذا تقدم الغرب؟!
قبل أن نطلق لخيالنا العنان في البحث عن إجابة، يجب أن نقرأ تاريخ القرنين الماضيين لنعرف دور الصحافة المطبوعة في تحقيق التقدم الغربي، وبناء قوة أوربا وأمريكا التي استخدمتها في السيطرة على شعوبنا؟!
دراسة التاريخ توضح لنا أن التقدم الغربي ارتبط بتطور الصحافة، وإطلاق الحرية للصحفيين ليقوموا بدورهم في توفير المعرفة للجمهور، فالمعرفة تطلق الخيال، وتشجع على الابتكار، لذلك كانت الصحافة أهم وسائل تحقيق تقدم المجتمعات الغربية.
وعندما فتح الغرب المجال العام، تم طرح الكثير من الأفكار الجديدة، وحولت الصحافة العلماء والمخترعين إلى نجوم للمجتمع، فشجعتهم على البحث والاختراع، فقامت الشركات باستغلال نتائج أبحاثهم، لذلك قامت الصحافة بدور مهم في تحقيق التقدم العلمي.
لماذا تقدمت الديمقراطية في الغرب؟!
كما ارتبطت الديمقراطية بتطور الصحافة التي أسهمت في تشكيل وعي المواطن الذي يستطيع أن يختار الحكام والنواب، لذلك فضّل الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون الحياة في دولة توجد بها صحافة حرة على الحياة في دولة توجد بها حكومة، لذلك قرر أن يصدر التعديل الأول للدستور الأمريكي ليحمي حرية الصحافة حتى من الكونغرس.
لذلك أدرك علماء الصحافة في أمريكا خطورة انهيار الصحافة المطبوعة على الديمقراطية، وأن أزمة الصحافة ستؤدي إلى ضعف الكونغرس، وتناقص المشاركة السياسية والتصويت في الانتخابات.
وأنا أتوقع أن يشهد الغرب كله انهيارا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعلميا خلال هذا العقد نتيجة تراجع دور الصحافة المطبوعة في توفير المعرفة للمواطنين، ومناقشة القضايا بحرّية.
لكن لماذا الصحافة العربية؟!
هل يمكن أن نتخيل أن الصحفيين العرب يمكن أن يقوموا بدور تاريخي في قيادة كفاح الأمة لبناء نهضة صحفية تُشكل أساسا للديمقراطية والتقدم وبناء المجتمعات المعرفية؟
العالم العربي الآن يمر بمرحلة من الضعف، تراكمت فيها المشكلات، وانتشر الفقر والغضب الاجتماعي.. فهل يجوز أن نطرح تلك الأسئلة التي تتناقض مع الواقع الكئيب الذي تعيشه الشعوب؟ وهل يمكن أن تسمح النظم الاستبدادية بالحديث عن حرية الصحافة.
لقد أصبحت الهجرة من هذا الوطن حلما لكل مواطن حتى إن كان يدرك أنه سيموت غرقا في البحر، فالموت أفضل من تلك الحياة التي يتجرع فيها الناس مرارة الهوان والذل والفقر والقهر.
فهل يجوز أن يتحدث أحد في هذا الواقع عن نهضة صحفية تُشكل أساسا للديمقراطية والتقدم؟
هذه هي اللحظة المناسبة!!
هذا الواقع المرير الكئيب يمكن أن يوفر الفرص لمبادرات شجاعة يقدمها قادة يطلقون لخيالهم العنان، فالجماهير في هذا الواقع تشتد حاجتها إلى رجال يمتلكون القدرة والجرأة علي التقدم للقيادة.
والقائد يجب أن يمتلك الجرأة، وأعتقد أن توماس جيفرسون عندما كان يحلم بصحافة أمريكية حرة كان يعيش في واقع أسوأ بكثير، وكان المجتمع الأمريكي يحتاج إليه ليضع الأساس للديمقراطية والحلم الأمريكي، وكان الحل الذي توصل إليه القائد هو حماية حرية الصحافة لتقوم بدورها التاريخي في بناء القوة الأمريكية.
لذلك تكون اللحظات الحرجة التي تتعرض فيها الدول لخطر يهدد وجودها فرصة لظهور القائد الذي يقدم حلولا جديدة غير متوقعة.
من يدير الحوار؟!
لكي تواجه الأمة العربية التحديات والأخطار والأزمات التي تراكمت خلال القرنين الماضيين، وتنتفض لتبني نهضة جديدة، فإنها تحتاج إلى صحف مطبوعة جديدة، فالمؤسسات الصحفية القائمة الآن لم تعد قادرة على تجديد نفسها، بعد أن عاشت تحت سيطرة السلطة، وفقدت مصداقيتها، ولم تعد قادرة على أن تقدم مضمونا يجذب الجماهير، ويشبع احتياجاتها إلى المعرفة.
والصحف الجديدة يجب أن تكون متعددة ومتنوعة، ويعمل فيها جيل جديد من الصحفيين يتعلمون في الجامعات الحرّية والأخلاقيات والنظريات والبحث العلمي والتحليل والنقد والتغطية المتعمقة للأحداث.
وهؤلاء الصحفيون يمكن أن يقوموا بدور تاريخي في إدارة مناقشة حرة بين كل الاتجاهات السياسية لتوفير المعرفة للجماهير عن المشروعات الحضارية، لكي تتمكن الشعوب من تقرير مصيرها وبناء مستقبلها.
لكن لماذا الصحافة المطبوعة وليس قنوات التلفزيون ووسائل الإعلام الجديد؟! إن الصحف المطبوعة تمتلك تراثا كبيرا وتجارب تاريخية، ويمكن أن نطور نظرية صحافة الكفاح الوطني، لتُشكل أساسا لنهضة صحفية.
ولأن الحوار الذي يبني المستقبل لا يتم داخل الغرف المغلقة، ولا يتم اختيار المتحاورين طبقا لأهواء السلطات، فإن الصحافة الحرة يمكن أن تقوم بوظيفتها في إدارة الحوار دون قيود، ليُشكل أساسا للاتفاق على حماية حقوق جميع الاتجاهات السياسية والفكرية في التعبير، والاحتكام إلى رأي الشعب الذي توضحه نتائج انتخابات حرة نزيهة تُشكل صورة إيجابية للدولة كما حدث في الانتخابات التركية.
لذلك فإن الأمة العربية في أشد الحاجة إلى صحافة حرة، ويمكن أن توفر إمكانيات النجاح للكثير من الصحف المطبوعة التي تشبع حاجة الجماهير إلى المعرفة، وتدير المناقشة الحرة، وتحمي المجتمعات من الانحرافات والفساد، وتُشكل ثقافة سياسية جديدة، وتشجع الناس على إنتاج الأفكار والابتكار والمشاركة والحق في التغيير.
هل يمكن أن نعيد الحياة إلى الصحافة المطبوعة؟ أنا أرى أن نهضة صحفية جديدة يمكن أن تنقل التقدم والقوة وقيادة الشعوب وبناء مجتمع المعرفة إلى العالم العربي.. فما رأيكم؟!