“الديكتاتور لا يعلم”.. أعادت الأزمة بين بيجين وواشنطن!

المنضاد الصيني

 

لا يخجل الطغاة عادة عبر نعتهم بما فيهم من غلظة وقسوة، بل منهم من يعتبر ذلك برهانا على قوته وقدرته على إثارة الغيرة والفزع في قلوب الخصوم. يواجه الرئيس الصيني شي جين بينغ عادة – ما تطلقه عليه الصحف الغربية بأنه يقود نظاما استبداديا، وحزبا فاشيا يدير دولة كبرى بعقلية الرجل الواحد- بضحكة ساخرة. يقول شي: الصين تمارس الديمقراطية بخصائص محلية، فلا تفرضوا عليها ديمقراطيتكم التي لا تتناسب مع طبيعة نظامها وشعبها.

كان ملفتا أن تشن الحكومة الصينية حربا إعلامية على الولايات المتحدة، بعد يومين من زيارة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، وصفتها أجهزة الإعلام الرسمية في بيجين بأنها “ساهمت في إصلاح العلاقات المتوترة وأعادتها إلى ما كانت عليه قبل نوفمبر 2022″.

جاءت الحملة الصينية، عقب تحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى جمع من أعضاء الحزب الديمقراطي الذي يمثله، بولاية كاليفورنيا الثلاثاء الماضي، حول نتائج زيارة، استهدفت إصلاح العلاقة الممزقة بين واشنطن وبيجين. طمأن ” بايدن” ناخبيه بأن وزيره بلينكن قام بعمل جيد، ثم استطرد حول أسباب تعطل تلك الزيارة منذ فبراير الماضي، قائلا: لقد انزعج شي جين بينغ جدا عندما أسقطنا البالون الملئ بمعدات تجسس، لأنه لم يكن يعلم بأن البالون كان هناك – يقصد في مكانه فوق أمريكا- أنا جاد هذا ما يشكل إحراجا كبيرا للديكتاتوريين، عندما لا يعرفون ما يحدث حولهم”.

تصريحات سخيفة

سارع المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ بوصف كلمات بايدن بأنها “استفزاز سياسي وكلمات سخيفة وغير مسؤولة، تتناقض بشكل خطير مع الحقائق، وتنتهك الآداب الدبلوماسية والكرامة السياسية للصين”. واكبت التصريحات، حملات موازية من أجهزة الإعلام الرسمية، التي قلّبت بدفاتر المجتمع الأمريكي، للعنه بأقذر ما فيه.

جاء الانتقام الشديد بتصريحات المسؤولين وما ذكره الكتاب كاشفا لما وراء كلمات ” بايدن”، التي اعتاد الناس على سماعها من ساسة غربيين وبالذات الأمريكيون. لقد شاهدنا، من قبل الرئيس الأمريكي السابق ترامب يرحب برئيس عربي مداعبا “مرحبا بديكتاتوري المفضل” ولم يغضب ذاك الضيف، واعتبر إعلامه الرسمي، المدار على الطريقة الصينية، الكلمة مزحة بين صديقين حميمين. وكم من مرة وصف الأمريكيون الرئيس شي بأنه ديكتاتور يمارس سلطاته كالأباطرة ويدير النظام كــ”One Man Show ” الرجل الواحد، فكانت تثير زوبعة في فنجان أحيانا، ثم تختفي.

لم تفلح الكلمات الودية بإصلاح ذات البين، وما زالت الحرب الإعلامية مستعرة منذ مساء الثلاثاء، بين قطبين يحتاج العالم متعدد الأزمات حاليا إلى التهدئة بينهما، وإزالة أسباب حرب باردة جديدة، بين قوتين متنافستين، ستكون أكثر ديمومة واتساعا، من أي حرب أخرى في التاريخ.

ظهور الرئيس

كشف حادث يقع مثله كثيرا هذه الأيام، عن الأسباب الحقيقية التي أثارت الحرب الشعواء بين الطرفين. عقب مقتل 31 شخصا بحريق شب بمطعم بمدينة ننغشيا ذات الأغلبية المسلمة، غربي البلاد، جراء تسرب غاز، حذر منه مواطنون قبل تفجيره المكان بساعة، خرج الرئيس” شي” بنفسه يندد بالأخطاء التي ارتكبها المسؤولون، ويدعو إلى معالجة” الأخطار الخفية ” وأثار ” الدرس العميق” الذي يجب أن يتعلمه المسؤولون من الحادث.

شهدت العاصمة بيجين الشهر الماضي، حريقا هائلا في مستشفى عام راح ضحيته 26 شخصا، ولم يعلم الشعب مصير عشرات المصابين الآخرين، تكتمت السلطة على أخبارهم والتحقيقات بشأنه، بل ولاحقت من نشر فيديوهاته على شبكات الإنترنت. ظهور الرئيس في حدث متكرر يبعد عنه آلاف الأميال، بينما لم يعلق على إهمال عمدي بالقرب من مكتبه، أعطى إشارة بأنه يريد القول: إنني موجود وأتابع كل شيء بنفسي. جاءت الرسالة ردا على ما قاله “بايدن”، بأن الرئيس لا يعلم ما يدور حوله، لذلك شعر بالصدمة عندما أخبره “بايدن” بأن رجاله أرسلوا ” البالون الجاسوس” للعمل فوق الأراضي الأمريكية، دون أن يخطروا قائدهم الأعلى بعمل شديد الحساسية ظل لفترة زمنية، محط نقاش بين المسؤولين العسكريين والمخابرات قبل أن تتناقله وسائل الإعلام.

انقلاب دستوري

جاء شي للحكم لفترة ولاية ثالثة، أكتوبر 2022، عقب انقلاب دستوري، أداره أثناء وجوده 10 سنوات بالحكم، وبعد تجاوزه العمر الافتراضي في السلطة، ببلوغه 69 عاما. أنهى نظام القيادة الجماعية بإدارة
الدولة والحزب الشيوعي، وأعاد حكم الرجل الواحد، متفوقا في سلطاته على الزعيم “ماو” الذي دخلت البلاد بعد وفاته، عام 1976، في فوضى سياسية، لم تنته إلا بعد عقد، بإقرار نظام قيادة جماعية داخل الحزب الحاكم، واجراءات تداول للسلطة بحد أقصى فترتين بالرئاسة وبلوغ كبار المسؤولين 68 عاما.

يتمتع “شي” بسلطات أقوى وأوسع من “ماو”، حولته بنص التعديل الدستوري، إلى المرشد الأعلى للحزب والزعيم الروحي للشعب. يبنى شي سمعته على دعوته بتجديد شباب الأمة الصينية، واستعداده لمواصلة ” المعارك بجرأة وثقة بالنفس والاستعداد لمحاربة الخصم”. يجيد شي استخدام عبارات لغوية قوية مليئة بالاستعارات، فعندما يشير إلى الخصم لا يذكر الولايات المتحدة لفظا، وإنما تُفهم من سياق الكلام، وعندما يتكلم عن رئيسها لا يسميه، لدرجة أن “بايدن “طلب منه- ذات مرة- مازحا أن يسمه باسمه بينما ” شي يطلق تصريحاته وتلميحاته بجدية، حول الخصومة مع واشنطن “.

الزعيم آخر من يعلم!

يدير “شي” الصين بقبضة قوية ممسكا بالملفات العسكرية والمدنية، يعبأ الدولة لحالة حرب -لا نراها قريبا- بينما يرسم خططها، بخطب وكتابات يومية بالإعلام. يصنع أملا بأن تنهض الأمة الصينية، لتقود العالم لألف عام مقبلة تحت راية الحزب الشيوعي، “صانع الأمة ونهضة بدت ذروتها مع احتفاله بالمئوية الأولى” عام 2021.

رغبة شي تتعارض مع تفكيكه نظام رئاسي، وظهور سيناريوهات أزمة الخلافة، بما فيها من أجواء الصراع بين التيارات الحزبية والأجهزة العسكرية والأمنية، وتقاسم النخبة لمراكز القوى. يعتبر “شي” كلمات “بايدن” تخطت الخطوط الحمراء، ليس بقولة “إنه ديكتاتور” ولكن بتمزيق صورته كزعيم غير ممسك بخيوط السلطة، لا يدري ما حوله من أمور. يدرك شي أن التشكيك بعدم معرفة القائد لأمر مهم، يزيل شرعيته كبطل ثوري قوي، بما يهدد بنهايته، ويعرض بقاء النظام الشيوعي للخطر.

 

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان