خيانة الصديق والتمرد الروسي

يبدو النظر إلى المشاهد المتقطعة في أي سيناريو واقعي أو سينمائي اجتزاء مخلّا بالأحداث، كمن ينظر إلى سطح البحر ولا يرى ما في أعماقه، تلك النظرة التي تصيب بخيبة الأمل عندما تكتمل مشاهد الفيلم السينمائي الذي لا توحي لقطاته الأولى بأمواجه وتقلباته.
يبدو أول المشاهد انتصارا لفريق ينتهي بك الفيلم إلى صدمة كبيرة في أحداثه، هكذا تعودت الانتظار حتى تكتمل الأحداث، تلك عادة في كل ما أراه أمامي من أحداث وخاصة على مسرح السياسة مصريا وعربيا وعالميا، لهذا يبدو أننا أمام مشاهد لم تكتمل في أحداث روستوف الروسية، أو ما يجري على أرض الدولة الكبرى التي بقيت مما سُمي سابقا الاتحاد السوفيتي، روسيا الدولة التي خرجت من خطة البيروستريكا التي قادها غورباتشوف نهاية العقد التاسع من القرن العشرين.
الدولة التي تحتل مكانة كبيرة في السياسة العالمية واحتفظت بقوة الاتحاد القديم، ليس من السهل أن تكون مشاهد قليلة على ساحتها كفيلة بإسقاطها بتلك الطرق التي تُستخدم كثيرا مع ما تُسمى جمهوريات الموز، فشعار “من يأتي مبكرا يأخذ الحكم” لا مكان له في الدول الكبيرة الممتدة تاريخيا.
احتمالات نجاح التمرد
لا يمكن لعاقل أن ينجرف مبكرا للتهليل لما حدث ليلة الرابع والعشرين من يونيو/حزيران الجاري في روسيا، حين تحركت قوات فاغنر الروسية لتستولي على مدينة روستوف الروسية، واستولت بقيادة مؤسسها وقائدها يفغيني بريغوجين، وامتد الأمر إلى الاستيلاء على مقار لوزارة الدفاع الروسية في المقاطعة، بل وتحركت نحو العاصمة مهددة بإزاحة الرئيس بوتين عن سدة الحكم.
هكذا بدا الأمر قبل عصر اليوم التالي، وبدت التصريحات الغربية حتى أن لندن أعلنت أن أمام بوتين ساعات، تلك مصيبة المشاهد الأولى دائما، فلا يمكن لدولة بحجم بريطانيا أو فرنسا أن يصدر منها مثل ذلك، ولكن الأسد البريطاني الجريح المنتهي عصره والتابع بعد سيطرة على العالم يحلم بهذا، وربما كان هذا طبيعيا في ظل صراع روسي أوربي أمريكي في أوكرانيا منذ أكثر من عام، فالجميع في الغرب يحلم بالانتهاء من كابوس بوتين القوي رجل المخابرات العنيد، والرئيس الذي لا يستسلم، أما دول الموز أو بعض أفرادها فقد راح بعض مفكريها أو مثقفيها يهللون، ومنهم بعض السياسيين المصريين والعرب، فروسيا على وشك السقوط، أي عقل يتكلم ويهلل؟!
مقاطعة روستوف التي بدا لأربعين ساعة أنه تم الاستيلاء عليها تقع شمال موسكو على بُعد 300 كيلومتر، وتضم العديد من المدن والقرى، أما مجموعة فاغنر فهي قوات روسية خاصة أسّسها بوتين مع صديقه القديم بريغوجين عام 2012، وهناك من يقول أنها أُسّست قبل عامين من هذا التاريخ، وقامت تلك القوات بخدمات لروسيا في أماكن عديدة منها سوريا وليبيا وبعض الدول الإفريقية، ولها دور في الحرب الروسية الأوكرانية الآن، هي شبيهة بقوات الدعم السريع في السودان أو ما يشابهها في بعض دول العالم، أما قائدها فهو صديق مقرب لبوتين وموقع ثقته، ويُطلَق عليه “طباخ بوتين” لعلاقة الأخير بمطعمه القديم قبل أن يؤسس هذه القوات.
أظن أن توقعات نجاح تمرد الصديق القديم على الرئيس المخضرم في تلك المحاولة كانت “صفر توقعات”، فلا يمكن لعاقل أن يظن أن روسيا التي نجت من خطة التقسيم على يد غورباتشوف، واستعادت نفسها وأصبحت القوة الثانية في العالم مرة أخرى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، يمكن أن تنهار بهذه السهولة على أيدي مجموعة من القوات الخاصة مهما بلغت قوتها، بل إن أغلب دول العالم لا يمكن أن تنجرف إلى تأييد ذلك ما عدا أمريكا وتوابعها في الغرب الأوربي، فهناك دول كبرى أخرى لها ثقلها العالمي لن تسمح بتمدد أكثر للولايات المتحدة، مثل الصين وكوريا وإيران، وقد أعجبني موقف الرئيس التركي أردوغان من الحدث، حيث أكد دعمه للرئيس الروسي، هكذا يكون رد فعل القادة في الدول العريقة.
خيانة الصديق
يعتقد العديد من الخبراء السياسيين والعسكريين أن ما حدث على مدار يومين قد يكون لعبة مخابراتية بين بوتين وصديقه لكشف ردود فعل بعض دول العالم تجاه سقوط روسيا، أو تهديد أمنها القومي من الداخل، وأيضا قد يكون ذلك خطة من بوتين وبريغوجين للتخلص من قادة القوات المسلحة الروسية، وإذا كان التفسير الأول محتملا، فتصوري أن التفسير الثاني لا احتمال له.
الثعلب الروسي لا يمكن أن يخاطر بمأزق لدولته وله عالميا من أجل التخلص من قيادات عسكرية، بل إن فكرة التخلص تلك لا يمكن أن تكون قبل حل الأزمة مع أوكرانيا وإلا تعرضت قواته لهزة كبيرة، وما هكذا يفكر رجل روسيا في سنوات طويلة، من المخابرات إلى رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الوزراء ثم الجمهورية مرة أخرى، نعم قد توجد أخطاء كان أفدحها في بداية الحرب، لكن الآن من الصعوبة اتخاذ قرار يهدد وحدة قواته وهي في حالة حرب تمددت لتكون حربا مع الكتلة الغربية كلها بقيادة الولايات المتحدة وداعمي أوكرانيا، نعم ليس مباشرة باستخدام قوات، ولكن هناك دعم كبير جدّا ضده.
هل يمكن أن يكون قائد فاغنر قد خان صديقه؟ سؤال يمكن طرحه، وتاريخيا نعم حدث وسيحدث ما بقي الصراع الدولي قائما، وما بقي الصراع الحدودي بين الدول، وأسهل طرق النصر وهزيمة العدو هو زرع جواسيس ومصادر قوة داخل صفوفه، ولا سيما إذا كانت طريقة التجنيد متعلقة بالمال والسلطة والنفوذ والشهوات، تلك طرق السيطرة، فاغنر قوات خاصة تم تكوين مليشياتها من عسكريين قدامي، وجندت مقاتليها عن طريق المال، في النهاية هي مليشيات بعيدة عن الدولة وتعمل كأنها مستأجَرة، إذَن مَن يستأجر مَن هنا يمكن أن يستأجر مَن هناك، وهذا لا يعني أن تلك الخيانة قد حدثت، لكنني أقول إنها واردة.
الآن وقد عادت الأمور على السطح كما هي، ويستعد أفراد فاغنر -حسب آخر تصريحات لقائدها- للعودة إلى أوكرانيا التي تحتل روسيا 18% من أراضيها، للمشاركة في الحرب الدائرة، وتم التوافق وحصل أفراد فاغنر على بعض المزايا الأمنية، وحصلت تفاهمات مع بريغوجين، فهل يمكن أن يمر مشهد التمرد بمثل هذه السهولة؟
التاريخ أيضا يُذكّرنا بأن الطلقة التي لا تُصوَّب في وقتها ترتد إليك، فإذا كان قائد فاغنر قد فعل ما حدث فإنه فوّت على نفسه الفرصة، ولا يمكن لبوتين أن يجعله في موقع إطلاق الرصاص مرة أخرى، لذا سيدفع الثمن، هذا إذا لم تكن هناك لعبة استخباراتية فعلا (لا احتمال لذلك)، وإن وُجد هذا الاحتمال ففي تلك الحالة سيدفع بوتين ثمنا ثقيلا جدّا في الطلقة القادمة، فلن تخيب، والقائد القوي والذكي لا يجعل المشهد يعاد أمامه مرتين، وفي التاريخ العِبَر لمن يقرأ ويعي.
أخيرا
هل سقوط روسيا في مصلحة العرب؟ فإن كنا قد أصبحنا بفعل التاريخ والأحداث في موقع المفعول به منذ أكثر من قرنين، حتى لو كانت هناك محاولات للفعل وفشلت، فإن سقوط روسيا أو الصين ليس في صالحنا، وحتى إذا اكتفينا بدور “حرافيش العالم” المهللين للفتوّة الجبار وليس العادل، فسقوط دول التوازن العالمي ليس في صالح العرب ولا الأمة الإسلامية، وتاريخ روسيا والاتحاد السوفيتي القديم إن كان لنا بعض المآخذ عليه، لكنها ضئيلة جدّا أمام ما عانيناه تاريخيا من الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، فوجود روسيا مهم للشرق الضعيف والواقع العربي المترهل، فلا تفرحوا اليوم، أو غدا إن حدث، وإن كنت أظن أن بوتين لم يُنهِ مشهد التمرد سواء أكان مصنوعا أم حقيقيا، وإلا سيخسر بوتين، وتخسر روسيا، ويخسر العرب الذين يخسرون في كل الأحوال.