بوتين حين يتجرع الدواء المُر.. وميليشيا فاغنر

 

من الحصافة ألا تُحِكِم الخناق على “الخصم”، وتحشره في الزاوية، لتقضي عليه، فتصير المعركة بالنسبة له، حياة أو موت، وقد تأتي النتائج على غير هواك ومُرادك، مهما كنت تملك من عناصر القوة.. الأصوب والأسلم أن تترك له مَهربًّا أو ممرًّا آمنا للنفاذ منه، والانصراف بعيدا، بأقل الخسائر لك، دون أن تتلوث يداك بدمائه. ربما، هذا بالضبط ما فعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (71 عاما)  في تعاطيه مع “التمرد المسلح” الذي اندلع واستمر يومي الجمعة والسبت، ظل خلالها العالم يحبس أنفاسه مُتابعا ومُترقبا لما يجري ونتائجه التي ستنعكس حتما، على الحرب في أوكرانيا والكثير من الملفات والقضايا الدولية، بفعل مكانة روسيا في النظام العالمي القائم. “الخصم” لبوتين هنا ليس مجرد فرد.. بل ميليشيات فاغنر القتالية شديدة البأس، التي تمتلك عتادا متوسطا، والمُقَدّر عددها بـ 25 ألف مقاتل من المُرتزقة، وهم أولا وأخيرا “مواطنون روس”، وليسوا أجانب.. التقاتل معهم، يعني حربا أهلية وإراقةَ لدماء الروس، وفوضى.

فاغنر والوعيد بشنق “شويغو” في الميدان الأحمر.. وصفقة لوكاشينكو

قوات فاغنر تحركت للتمرد بأوامر وقيادة زعيمها المؤسس “يفغيني بريغوجين” (61 عاما)، مساء الجمعة، بتوقيت منطقتنا العربية، الذي أعلن التمرد المسلح، انقلابا على صديقه بوتين الذي فتح أمامه أبواب الكرملين. “بريغوجين” قال إنه يستهدف وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ومتوعدا بشنقه في الميدان الأحمر، وهو ساحة كبيرة للمناسبات ومزار سياحي، مجاور للكرملين (مقر الرئاسة الروسية) في قلب العاصمة موسكو. “قائد فاغنر”، زحف بقواته، إلى مدينة روستوف الروسية القريبة من أوكرانيا، وسيطر على مقار عسكرية ومواقع مُهمة بالبلدة، ومنها قاصدا العاصمة الروسية “موسكو”، واقتربت منها لمسافة مئتي كيلو متا، دون صد أو رد، أو رصاصة واحدة. هذا قبل أن يتراجع بريغوجين، ويقرر الدوران للخلف، بعد وساطة و”صفقة” عقدها معه رئيس بيلاروسيا (روسيا البيضاء) ألكسندر لوكاشينكو، بموافقة بوتين، يتوجه بمقتضاها بريغوجين إلى بيلاروسيا، للإقامة فيها، مع إعفائه ورجاله من الملاحقة الجنائية.

تفكيك الميليشيا.. وتكليفات فاغنر في القتال الخارجي وجرائم حرب

عقب إعلان التمرد بساعات قليلة، سارع بوتين مخاطبا الشعب الروسي، عبر تلفزيون الدولة، وأحاطه بما يجري، وطمأنه، متوعدا قائد فاغنر (دون أن يسميه)، بالعقاب والقضاء على تمرده، واصفا مسلكه بـ “الخيانة” والطعن في الظهر، مع تأكيده على استمرار الحرب أو ما يسميه العملية الخاصة ضد أوكرانيا. بالتوازي ومنذ بدء التمرد توالت القرارات والإجراءات لتأمين البلاد، والإعلان عن فتح الباب أمام مقاتلي فاغنر الذين لم يشاركوا في التمرد، لتوقيع عقود للتجنيد مع الجيش الروسي، كخطوة على طريق تفكيك هذه الميليشيا.
“فاغنر”، نفذت أعمالا وتكليفات قتالية وغير قتالية لصالح “روسيا”، دون أن تكون محسوبة عليها رسميا، بما يعفي روسيا من المسؤولية عما ترتكبه فاغنر من جرائم حرب أو خروقات. “فاغنر” توجد وتُقاتل في سوريا (إلى جانب النظام السوري الحاكم)، وليبيا (دعما للجنرال خليفة حفتر)، والسودان بتأمين نقل الذهب إلى خارجه لحساب ميليشيات الدعم السريع التي تسيطر على مناجم في إقليم دارفور، وغيرها من الدول الإفريقية.

باخموت وبريغوجين.. ونوعية الأسلحة التي تجاهلتها وزارة الدفاع الروسية

حققت فاغنر انتصارا ملموسا، بمساعدة الجيش الروسي في السيطرة على بلدة “باخموت” الأوكرانية. ربما أسهم هذا “الانتصار” في تضخم الذات، والتطلع للسلطة لدي “بريغوجين”، شأن قائد ميليشيات الدعم السريع في السودان الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي)، التي أنشأها الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ليضرب بها معارضيه في دارفور، قبل أن تنقلب عليه، ثم تدخل حربا مع الجيش صراعا على السلطة، وغيره كثيرين على هذا الحال.
بريغوجين، كان يشن “هجمات إعلامية” متكررة طوال أسابيع مضت على وزير الدفاع الروسي شويغو، ويتهمه بمنع الذخائر والأسلحة عن قواته. رغم كثافة هجوم بريغوجين على شخص الوزير “شويغو”، فإن أحدا لم يرد على قائد فاغنر.. فيما عدا بيان رسمي، أصدرته وزارة الدفاع أثناء التمرد، تنفي فيه مزاعم بريغوجين، بقصف الجيش الروسي لقوات فاغنر في أوكرانيا.
“شويغو”، سياسي مدني مخضرم، وليس عسكريا بالأصل، وبالتأكيد يدرك أهمية تحجيم التسليح لميليشيات فاغنر، وأن نوعية الأسلحة التي يطلبها قائد فاغنر، من شأنها تقويتها وقائدها، بأكثر مما يجب، فتكون ندا للجيش أو خطرا عليه، ومن ثم، فإنه تجاهل طلبات بريغوجين، وهجومه. من زاوية أخرى، فإن “بوتين”، وهو سياسي داهية، راح يتعامل مع الأزمة، بمنهج مختلف عما هو متوقع في مثل هذه الأحوال من سحق للتمرد، والتعامل العسكري الخشن معه.. إذ يبدو أن الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو (حليف بوتين) دخل على خط الوساطة مبكرا، ونجح في إقناع بريغوجين زعيم فاغنر، بالتراجع وقبول الصفقة التي عرضها عليه.

الدواء المُر.. والذئب والخيانة وفاغنر والدعم السريع

غني عن البيان، أنه ما كان لـ “قائد فاغنر”، قبول وساطة وصفقة لوكاشينكو، لو كان على يقين بنجاح التمرد، وتحقيق أهدافه.. ذلك أن نتائج مفاوضات لوكاشينكو معه، وقبوله الانتقال إلى بيلاروسيا، هو انعكاس لموازين القوى، والتي هي في صالح النظام الروسي، بلا أدنى جدال. عودة إلى الرئيس الروسي بوتين، فلم ينشغل بالضجيج الإعلامي الغربي، عن هروبه، واختفاء وزير الدفاع ورئيس الأركان، وما قيل عن هشاشة الأمن الروسي، الفوضى، وما إلى ذلك. كان بوسعه أن يتصرف بحماقة، ويدفع بلاده إلى حرب أهلية، فتضيع البلاد وتتفكك، ويخسر حربه في أوكرانيا، وينتصر الغرب.. لكنه لم يفعل، وآثر أن يتجرع الدواء المُر، وينجو مع بلاده ومواطنيه من كارثة محققة. بقي أن مّن يقتني ذئبا ويحتضنه، عليه أن ينتظر الخيانة، وأن يفترسه “الذئب”، حين تلوح له الفرصة، وهكذا فاغنر، ومن قبلها الدعم السريع، وكل الميليشيات الشبيهة، فهي مثل الذئاب تنقض على ولاتها، حين تكون الفرصة مواتية.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان