حلول ممكنة لأزمة اللحوم الطاحنة في مصر

 

يعاني المصريون ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار اللحوم المحلية أو البلدية، والمستوردة بنوعيها المبردة والمجمدة. ورغم أن المعاناة مستمرة منذ سنوات، ولكن مع قدوم عيد الأضحى، وهو مناسبة دينية استثنائية عامة لاقتناء الموسرين الأضاحي والإقبال على شراء اللحوم لمن يقدر ومن لا يستطيع شراءها في أي وقت آخر طوال العام، تضاعفت المعاناة بتضاعف أسعار اللحوم عما كانت عليه قبل أشهر قليلة. وأثارت أزمة اللحوم في مصر دون غيرها من دول العالم اهتمام الصحف العالمية.

ونشر موقع (ميدل إيست مونيتور) البريطاني تقريرا في نهاية شهر مايو/أيار الماضي بعنوان “من يستطيع شراء اللحوم في مصر اليوم؟!” وثق فيه ارتفاع سعر الكيلوغرام من اللحم البقري في الأسواق المصرية بنسبة 100% منذ شهر يناير/كانون الثاني الماضي، حتى وصل أخيرًا إلى 350 جنيهًا (نحو 12 دولارًا أمريكيًّا)، وتجاوزت الأسعار في بعض أحياء القاهرة 400 جنيه (نحو 13 دولارًا) وبعض قطع اللحم الممتازة بلغ سعرها 450 جنيهًا (نحو 14.5 دولارًا) في ظل تزايد المخاوف من أن يصل سعر اللحوم إلى 500 جنيه (أكثر من 16 دولارًا) للكيلوغرام في عيد الأضحى، وسط موجة تضخم غير مسبوقة أصابت جميع السلع والخدمات في البلاد.

وكان مما وثقه التقرير المحايد، أن العظام المستخرجة من الذبيحة زاد سعرها وكانت تُمنح مجانًا في الماضي، وأن عظام الظهر تباع من سبعة إلى عشرة جنيهات للكيلوغرام الواحد (نحو 0.3 دولار)، بينما وصل سعر عظمة الرجل “الماسورة” إلى 30 جنيهًا (نحو دولار واحد)، حتى أن جدلًا واسعًا اندلع بعد تداول صور لمؤسسة خيرية توزع عظام الماشية على الأسر ذات الدخل المحدود في محافظة الإسكندرية (شمالي البلاد)، وتتفاخر بفوائد العظام على الصحة.

ويقبل كثير من المصريين الآن على شراء ما يُعرف بالعامية باسم “فواكه اللحم” بدلًا من اللحوم بما في ذلك “الكِرْشة” بسعر 100 جنيه (3.2 دولارات) ولحم الرأس بسعر 250 جنيهًا (نحو 8 دولارات) واللسان بسعر 250 جنيهًا (نحو 8 دولارات) والكوارع بسعر 200 جنيه (نحو 6.5 دولارات) والكبد والقلب 320 جنيهًا (نحو 10.3 دولارات) للكيلوغرام الواحد، بحسب أسعار السوق في الجيزة. وتناول المقال ترويج وسائل الإعلام المصرية في ديسمبر/كانون الأول الماضي لفوائد أقدام الدجاج التي ارتفع سعرها في السوق المحلية إلى 30 جنيهًا (دولار واحد) للكيلوغرام، والأجنحة 55 جنيهًا (1.8 دولار) والرقبة 75 جنيهًا (2.4 دولار) أما لحوم الدجاج فوصل سعرها إلى 76 جنيهًا (2.4 دولار) للكيلوغرام.

وأشار إلى رصد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) في مسح أجراه على الأسر المصرية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن الغلاء أجبر 93% من الأسر المصرية على خفض استهلاكها من اللحوم والدواجن والأسماك. ولم يكن الحرمان من اللحوم والأسماك فقط، بل إن 90% من الأسر قلّ استهلاكها من الطعام عامة، و75% من الأسر قلّ استهلاكها من الأرز والبيض والزيت والفاكهة. وانخفض متوسط استهلاك الفرد من اللحوم في مصر سنويًّا من 10.7 كيلوغرامات في عام 2017 إلى 7.3 كيلوغرامات في عام 2020.

وتفاقمت الأزمة إلى حد أن أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، سعد الدين الهلالي، حث في مقابلة تلفزيونية المصريين على التضحية بالطيور بدلًا من العجول والخراف في ظل ضيق الوضع المادي كما يقول. ومن قبله، دعا الصحفي بقناة النهار، تامر أمين، إلى أكل لحوم الحمير في ظل الارتفاع الكبير في أسعار اللحوم. وزاد الطين بلة، تأييد مسؤول التثقيف الغذائي في المعهد القومي للتغذية الحكومي الصحفي أمين بقوله إن المعهد لا يعترض شريطة أن يكون هناك إجماع مجتمعي على هذه المسألة، وهذا المسؤول هو صاحب فكرة علاج كورونا بما سمّاه “الشَّلَولَو”.

أسباب ارتفاع أسعار اللحوم في مصر

يتبنى الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء رأي الحكومة في أن سبب ارتفاع أسعار السلع ومنها اللحوم هو تداعيات موجة التضخم الخارجية بسبب كورونا والحرب في أوكرانيا، لكن المواطن يعاني غلاء اللحوم منذ سنوات وقبل الحرب في أوكرانيا. وإذا كانت أسعار اللحوم لا تتجاوز من 6 إلى 7 دولارات للكيلوغرام في أوكرانيا التي تدور رحى الحرب المزعومة على أرضها، وفي سوريا التي يُضرب بها المثل في مصر بالضياع، فإن مبرر جهاز الإحصاء مضلل للمواطن وكاشف عن عدم الجدية في حل الأزمة.

في نهاية العام الماضي، قام المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، وهو مركز أمريكي له فرع في مصر، بمسح غذائي لأكثر من 6 آلاف أسرة في جميع أنحاء مصر عبر الهاتف، وسؤالهم عمّا إذا كانت عاداتهم الاستهلاكية قد تغيرت، وأسباب التغييرات في الاستهلاك، فأبلغ 85% من الأسر عن تقليل استهلاك اللحوم بسبب ارتفاع الأسعار. وجاء في تقرير الدراسة أن مصر معرَّضة بشكل خاص لارتفاع أسعار الغذاء العالمية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا بسبب اعتمادها على الواردات الغذائية من الخارج. وبالتالي فإن مصر، وأي دولة أخرى، ستكون في مأمن من الغلاء إذا كان لديها اكتفاء ذاتي من الغذاء.

وفي تقديري، فإن ارتفاع أسعار اللحوم في مصر يرجع إلى أسباب مختلفة، أولها إغراق سوق اللحوم البلدية باستيراد شركات تابعة للجيش كميات ضخمة من اللحوم المجمدة والدواجن، طمعًا في الربح المضاعَف، ولكنه حقق خسائر فادحة للمُربّين المصريين. في دراسة لمعهد بحوث الاقتصاد الزراعي سنة 2022، أثبتت استيراد نحو 800 ألف طن من اللحوم المجمدة، بسعر دولار واحد للكيلوغرام. وقامت سيارات تابعة للجيش ببيع اللحوم والدواجن على أرصفة الشوارع وفي عموم المدن والقرى والنجوع بأسعار مضاعفة، ولكنها ظلت أقل من أسعار اللحوم البلدية. وكانت النتيجة أن توقف 70% تقريبًا من الفلاحين عن تربية الماشية. أعرف مُربّين توقفوا تمامًا عن مهنتهم الأصلية في تربية المواشي منذ سنة 2017 بعد تكبّدهم خسائر فاقت مئات الآلاف من الجنيهات.

مؤخرًا، ظهر مرض جنون البقر في البرازيل، وحظرت الدول استيراد اللحوم البرازيلية، ورغم ذلك لم تحظرها مصر طمعًا في الأسعار المنخفضة. وتساءلت (سي إن إن عربي): لماذا لم تُوقف مصر استيراد اللحوم من البرازيل بعد رصد إصابات بجنون البقر؟ وتطوع مسؤولون في وزارتي التموين والزراعة للدفاع عن جودة اللحوم البرازيلية وكأنها مصرية. وفي بداية سنة 2017، عاودت مصر لأول مرة استيراد اللحوم من أيرلندا بعد حظرها 20 سنة بسبب مرض جنون البقر. وفي التوقيت ذاته، كشفت السلطات في البرازيل عن أكبر شبكة لتصدير اللحوم الفاسدة، وأوقفت الدول -باستثناء مصر- الاستيراد لحين انتهاء التحقيق. وتطوع مسؤول في وزارة الزراعة المصرية بتأكيد سلامة اللحوم البرازيلية رغم ثبوت فسادها في بلدها البرازيل.

السبب الثاني، ارتفاع أسعار الأعلاف في السوق المحلية رغم تراجعها دوليًّا، بسبب المافيا النافذة، وانخفاض قيمة الجنيه وشح الدولار. وصل سعر الذرة الصفراء إلى 18 ألف جنيه، رغم أن سعرها في السوق الدولية 9 آلاف جنيه فقط، وكانت النتيجة خروج كثير من مزارع اللحوم والدواجن والأسماك من دولاب العمل وتراجع الإنتاج بسبب ارتفاع التكلفة. ورأينا كيف تخلص مُربّو الدواجن من الكتاكيت بسبب غياب الأعلاف. وقد رصدت دراسة لمعهد الاقتصاد الزراعي انخفاض الإنتاج المحلي من اللحوم من 992 ألف طن في سنة 2018 إلى 512 ألف طن في سنة 2020.

السبب الثالث، تكرار حملات مقاطعة اللحوم البلدية، دون غيرها من المجمدة المستوردة، خلال السنوات الماضية، مثل “بلاها لحمة”، و”خليها تعفن”، ومؤخرًا حملة “خليها تنعر”، بحجة محاربة جشع التجار. بالإضافة إلى إشاعة أكذوبة بيع لحوم الحمير في الإعلام المصرين التي تضطر المستهلك إلى العزوف عن شراء اللحوم البلدية لصالح المستوردة، والنتيجة وقف حال مُربّي الماشية المصريين والتجار، حتى أن 30% من القصابين أغلقوا محالهم أو غيروا نشاطهم التجاري، وفق نائب رئيس شعبة القصابين بالغرف التجارية.

علاج أزمة اللحوم في مصر

لعلاج أزمة اللحوم في مصر، لا بد أولًا من تنفيذ برنامج قومي لتحسين سلالات الأبقار والجاموس المصرية، وهي التي تميزت عن السلالات الأجنبية بمقاومتها للأمراض وتأقلمت مع المناخ المصري، ووقف محاولات الخلاص منها بحجة أنها منخفضة الإنتاجية، خاصة الجاموس المصري الذي يتميز بصفات فريدة عن غيره من ماشية اللبن، فيطول عمره الإنتاجي حتى 20 سنة. وقد أخبرنا الدكتور حسن جبر، أستاذ الإنتاج الحيواني، أن مشروعًا قوميًّا لتحسين الصفات الإنتاجية لقطعان الجاموسي المصري بدأ في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن وزير الزراعة المثير للجدل، يوسف والي، قتله في مهده.

وقال إن المشروع نُقل إلى إسرائيل، ونجح هناك بعد عشرين سنة في إنتاج تراكيب وراثية وسلالات من الجاموس المصري مقاومة للأمراض وعالية في إدرار الحليب حتى 20 كيلوغرامًا في اليوم من خلال برامج التهجين والانتخاب الوراثي، وهو ما أشار إليه الجنرال السيسي بقوله “الجاموس بتاعنا ده دولة خدته عملت ليه تعديل وراثي كان بيطلع 5 و6 كيلوغرام لبن، رجعته بيجيب 25 كيلوغرام لبن” مع التحفظ على طريقة التعديل الوراثي لأنها لا تصلح في هذا المجال.

ثانيًا، العودة إلى تنفيذ المشروع القومي للبتلو الذي بدأ في الثمانينيات كاملًا دون اجتزاء، فتوفر وزارة الزراعة العجول المحسَّنة للمُربّين، والأعلاف المحلية، وخاصة كسبة بذرة القطن، والأدوية البيطرية والأمصال بأسعار معقولة دون تربح، والإشراف البيطري، ثم تشتري وزارة التموين العجول من الفلاحين بعد تسمينها إلى وزن 500 كيلوغرام بأسعار تحقق هامش ربح حقيقيًّا للفلاح ويناسب المستهلك أيضًا، وكان الاكتفاء الذاتي من اللحوم البلدية بأسعار مناسبة للمواطن وتشغيل الشباب وزيادة دخل الفلاحين من مكاسب مشروع البتلو.

ولكن عودة مشروع البتلو الحالي، واختصاره في قرض يحصل عليه المُربّي بفائدة من البنك الزراعي، الذي تحول من بنك تسليف الفلاحين إلى بنك تجاري، ليتولى عملية التسمين في ظل غلاء الأعلاف الفاحش، وإغراق السوق باللحوم والدواجن المجمدة، وغياب الإشراف البيطري، وانعدام الرقابة على الأدوية واللقاحات، كل ذلك أدى إلى فشل المشروع في حل أزمة اللحوم خلال السنوات الماضية، وتسبب في خراب بيوت المُربّين بعد عجزهم عن سداد القروض البنكية وفوائدها.

ثالثًا: حماية المنتج الوطني من الإغراق باللحوم المستوردة والدواجن المنتهية الصلاحية، والكف عن تشويه سمعة المنتج الوطني لصالح المستورد، وتوفير الأعلاف المحلية، الذرة الصفراء وكسبة بذرة القطن، من خلال مشروع قومي للاكتفاء الذاتي من الذرة الصفراء، وهو المشروع الذي وضع لبنته الأولى وزير التموين السابق الدكتور باسم عودة، ونقيب الفلاحين الحاج عبد الرحمن شكري، بالاشتراك مع وزارة الزراعة واتحاد منتجي الدواجن. صحيح أن مصر لا تتمتع بالمراعي الطبيعية، ولكن الفلاحين المصرين نجحوا في الماضي في تحقيق الاكتفاء الذاتي من اللحوم رغم غياب المراعي، بفضل وفرة كسبة بذرة القطن.

رابعًا: دعم المُربّي المصري، كما تفعل كل دول العالم. ويجدر هنا التأكيد أنه لا يمكن أن تكتفي دولة ما ذاتيًّا من اللحوم دون دعم من الدولة “غير مباشر” بتوفير السلالات والأعلاف والأدوية والإشراف البيطري بأسعار اقتصادية، و”مباشر” بدفع تحويلات مالية مباشرة عن كل رأس تصل إلى وزن 500 كيلوغرام عند الذبح. وقد زرت دولة أوربية ليست متقدمة، وسألت عن حجم الدعم المباشر الذي تقدمه الحكومة لمُربّي الماشية، فوجدته يعادل 40% من التكلفة.

هذا الدعم يُمثل صافي ربح المُربّي الذي لا يستطيع أن يحقق هامش ربح من دونه، وبفضل هذا الدعم المتواضع بالنسبة لما تقدمه دول أوربا المتقدمة، أصبحت لهذه الدولة مكانة وعلامة تجارية في أوربا في إنتاج اللحوم والألبان، حتى أن مواطني ألمانيا والدول المجاورة يزورونها بالسيارات من أجل شراء اللحوم فقط. ورغم أن مذاق اللحم هناك يُضرب به المثل في الجودة، فإني وجدت أن مذاق اللحم المصري ما زال يتفوق عليه.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان