” لتعارفوا ” المنافع الحياتية للتعارف

في بدايات عملي الصحفي كنت أعد تحقيقا صحفيا حول إحدى قضايا الإسكان، وذهبت لقسم التخطيط العمراني بجامعة الأزهر لأخذ رأي أحد الأساتذة بالموضوع، ووصلت بعد العصر حيث خلا المكان إلا من أحد الأساتذة، وبعد أن عرفته بنفسي وذكرت له الموضوع سألني عمن سألتهم عن الموضوع قبله، فذكرت له أسماء بعض من سألتهم وأسماء لأشخاص سوف أسألهم بعده.
فقلت له منهم الدكتور ميلاد حنا، وكان رئيس لجنة الإسكان بمجلس الشعب وقتها، والدكتور أحمد محرم، وحسن درة، فرد الدكتور حازم ابراهيم أستاذ التخطيط العمراني بأن كل هؤلاء ليسوا متخصصين بالإسكان، فظننت أنه شخص مغرور لأن من ذكرتهم كانوا أسماء بارزة بالمجال حينذاك وآراءهم تملأ الصحف، وعاجلني الدكتور حازم رحمه الله، بأن الدكتور ميلاد حنا أستاذ ميكانيكا تربة، والدكتور أحمد محرم متخصص في الإنشاءات المعدنية، وحسن درة مقاول، فسألته متهكما ومن هو المتخصص بالإسكان إذن؟ فقال الدكتور عبد المحسن براده، وقلت في نفسي إنني لن أخسر شيئا أن أجرب خاصة أنه أعطاني رقم تليفونه.
وكانت المفاجأة أنني سمعت كلاما سلسا وعميقا في نفس الوقت وفي صلب القضية المطروحة، وبشكل مختلف تماما عما سمعته من غيره، وتعلمت الدرس بأن أتعرف على الشخص المتخصص مع كل موضوع صحفي أتناوله، كي يحصل القارئ على معلومات دقيقة وسهلة.
وعندما تخصصت بالاقتصاد كان مطلوبا أن أتعرف على التخصص الدقيق لكل من أتعرف عليه ممن يحملون لقب أستاذ اقتصاد، فهذا متخصص بالبنوك، وهذا بالبورصة، وهذا بالضرائب، وهذا بالتجارة الخارجية، وهذا تاريخ اقتصاد. وهكذا تطول القائمة حتى تخطت الخمسة عشر تخصصا لتصل الي اقتصاديات التعليم، واقتصاديات الصحة، واقتصاديات البيئة وغير ذلك.
المعارض وسيلة الشركات للتعارف
وتهتم الشركات الإنتاجية والخدمية بحضور المعارض المحلية والخارجية للتعرف على الجديد في مجال عملها، حتى تستطيع المنافسة بالأسواق المحلية والدولية، كما تتعرف الغرف التجارية والصناعية على أقرانها بالبلدان الأخرى لتنشيط التجارة والتبادل والاستثمار المشترك.
وربما ينظر البعض الي الآية الكريمة بسورة الحجرات “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير” بمفهوم ضيق لمجرد التعارف بين الدوائر الضيقة حولنا. ففي النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي كنا طلابا بالمدينة الجامعية بجامعة القاهرة، ونصلي الجمعة بمسجد أنس بن مالك بمنطقة المهندسين بالجيزة.
وكان خطيب المسجد الشيخ ابراهيم عزت يطلب من المصلين بعد الصلاة التحلق في مجموعات خُماسية للتعرف على بعضنا، وكان لذلك ثماره الطيبة عندما نتعرف على أصحاب مراكز مرموقة كانوا جالسين بجوارنا، ثم كررنا فضيلة التعارف فيما بيننا كلما التقينا بشخص غير معروف لنا في المجالس المختلفة سواء بالجامعة أو غيرها.
لكن قضية التعارف أصبحت أكثر اتساعا بالوقت الحالي، فنحن ملزمين من باب من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، بالتعرف المستمر على أحوال المسلمين في كل مكان خاصة بالأماكن التي تشهد اضطهادا لهم، في فلسطين وميانمار والهند وكشمير وغيرها، وهاهم المصريون البسطاء الذين كانوا يدعون دعاء القنوت في صلواتهم لأهل غزه كلما تعرضوا لعدوان إسرائيلي أحد الشواهد.
وها هي مواقع التواصل الاجتماعي تتيح لنا فرص التعارف بشكل أكبر، من خلال المقاطع المصورة التي تنقل لمحات من حياة المسلمين في أنحاء الكون، ومن ذلك ما شاهدته من حفل زفاف ماليزي حرص أهل العروسين خلاله على عقد الحفل في مكان حافل بصور من جمال الطبيعة، والأناقة الفائقة لكلا العروسين، وقيام المدعوين بتقديم التهاني للعروسين والتناول الجماعي للطعام، وخلال فقرات الحفل المتعددة لم نشهد أي ملمح مخالف لتعاليم الدين، مما أصابنا بالحسرة بعد أن أصبحت حفلات الزواج ببلادنا حافلة بالرقص الجماعي للنساء والرجال ومظاهر العري وغير ذلك من المخالفات الشرعية.
الموسوعات العلمية وسيلة للتعارف
ولا يقتصر التعارف على أحوال المسلمين من خلال شبكات التواصل على النواحي الإيجابية كتلاوة القرآن والصلاة الجماعية، ولكن أيضا التراجع الذي أصاب بعض المجتمعات، مثلما يحدث بالدول الإسلامية التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي السابق، من تعمد إغراق الشباب بالملذات والخمور، ولقد سألت زميلة صحفية بعد عودتها من مهمة صحفية في كازاخستان عن نسبة انتشار الحجاب هناك، فقالت لي إنها لم تشاهد أحدا يرتدي الحجاب بالمرة.
وصور التعارف كثيرة منها موسوعات الشخصيات التي تذكر أسماء من لهم بصمات بارزة بالمجالات المختلفة، ومنها الجهد الفردي لاستعراض بعض النماذج مثلما يفعل الزميل الصحفي أحمد ابراهيم بشهر رمضان كل عام على صفحته، باستعراض ملامح إحدى الشخصيات المصرية البسيطة التي تركت بصمة في مجتمعها.
وهناك أشخاص كثيرين لم يأخذوا حظهم الواجب من نشر سيرتهم العطرة، ومن هؤلاء المهندس صلاح عطية الرجل الذي بني أربع كليات جامعية بقرية تفنها الأشراف بالدقهلية، وأصبحت القرية من خلاله بلا عاطل ولا فقير كنموذج غير متكرر ببلدان العالم الثالث، كما قام ببناء أكثر من ألف معهد أزهري بقرى مصر إلى جانب إنشاء ما يسمى (بيت المال) بعشرات القري لخدمة الفقراء.
وسلوى سبع التي ظلت 14 عاما طريحة الفراش بسبب شلل رباعي، بحيث لا تستطيع مد يدها لإحضار كوب ماء موضوع على المنضدة المجاورة لفراشها كي تروي عطشها، ورغم ذلك قامت بمشروع لخدمة الفقراء بأنحاء المحافظات، وتقديم المساعدات والأجهزة التعويضية والملابس والأدوية المجانية.
كثيرين لا يعرفون الدكتور أحمد مختار الذي كان يعمل بعض الوقت بعيادة نقابة الصحفيين، وخلال فترة عمله كان يتكفل بنفقات ذهاب أحد العاملين بالنقابة للعمرة والحج بشكل دوري، كما قام ببناء مسجد وأنشأ جمعية خيرية بمنطقة إمبابة بالجيزة، وها هي اللقاءات التلفزيونية للدكتور محمد الجوادي تكشف لنا عن شخص فريد من نوعه، ليس فقط في علمه وأخلاقه وغزرة إنتاجه، ولكن في جرأته بالصدع بالحق وتعريته للمواقف المُخزية للكثيرين بداية بالرئيس الراحل عبد الناصر ومرورا بمحمد حسنين هيكل وغيرهم.
التعارف بين المنتجين والتجار بالعالم الإسلامي
ولقد سألت زميلة صحفية متخصصة بالمجال الطبي لماذا لا تنشر نقابة الأطباء، دليلا بأسماء الأطباء بالمتخصصات المختلفة والدرجة العلمية لكلا منهم، بحيث يساعد الجمهور في التوجه إلى الأكفاء منهم، خاصة القادمين من الأقاليم للعلاج بالعاصمة، ويعتمدون علي شهرة الأطباء الذين يظهرون بالفضائيات، وهم لا يعلمون أن كثيرا من الأطباء يشترون أوقاتا بتلك الفضائيات، لأنهم سيعوضون التكلفة من خلال زيادة الإقبال علي عياداتهم الخاصة، وكان رد الزميلة أن هذا الدليل المقترح مستحيل أن يصدر، لأن هناك مصلحة للمشاهير من الأطباء في عدم ظهوره.
التعارف مطلوب بمجال التجارة، فعندما لا تنتج مصر حتى الآن الممحاة -الأستيكة- مع وجود أكثر من 25 مليون طالب يستهلكون كميات كبيرة منها سنويا، فإن تعارف تجار الأدوات المكتبية بمصر على منتجين لها بدول اسلامية أخرى، سيوفر ذلك فرص عمل وتسويق للمنتجات وتحسينا لمستوي معيشة العاملين بتلك الصناعات، وهو أمر مطلوب تكراره بالسلع المختلفة كي ترتفع معدلات التجارة البينية التي مازالت معدلاتها منخفضة، بينما تتخطي نسبة التجارة البينة بين دول الاتحاد الأوربي نسبة الـ75%.
والتعارف بين أبناء المهن المختلفة مطلوب، وإذا كانت النقابات المهنية تقوم بهذا الدور لأعضائها، فإن الممارسين للحرف المختلفة يفتقدون للتعارف فيما بينهم، وهو أمر مطلوب لنشر كل جديد يساهم في تطوير المهنة ويقلل من جهد ممارستها، وعلاج أفرادها والتأمين عليهم وتقديم التمويل الميسر لهم.
حتى السلع نحتاج إلى التعرف عليها لتكون لدينا ثقافة سلعية، للتأكد من استهلاك سلع ذات جودة، وفي الولايات المتحدة زرت إحدى الجهات الأهلية العاملة بمجال حماية المستهلك، حيث تقوم بتجربة السلع المختلفة ثم إصدار تقرير عنها كي يكون مرجعا للمستهلكين عن كفاءة تلك السلعة قبل الشراء، كثلاجة أو بوتاجاز أو جهاز تكييف إلى غير ذلك.
وخلال زيارة المقر وجدنا في إحدى الغرف ما يشبه قادوس طحن الدقيق بالأرياف وعليه حقيبة سفر، وتدور الطاحونة وبداخلها الحقيبة وبالطبع عندما ترتفع الحقيبة لأعلى ستسقط بحكم الجاذبية لتعاود الصعود مع دوران الطاحونة، وفي كل مرة تسقط الحقيبة يكون السقوط على أحد جوانبها، وبعد عدة أيام يتم كتابة تقرير علمي عن مدى تحمل جوانب الحقيبة للصدمات ومدى ثبات لونها ومدى تحمل وسيلة إغلاقها.
وفي حجرة وجدنا استخداما شاقا لأحد الأجهزة المنزلية، وفي حجرة أخرى وجدنا اختبارات لنوع من القماش بتعريضه لمواد كيماوية ولدرجات معينة من الحرارة، ليخرج تقريرا عنه للجمهور كي يتعرف على هذا القماش ويتخذ قراره تجاهه بالشراء من عدمه.