عيدنا وبهجة البنفسج

 

التقاط لحظة مبهجة في حياة الإنسان تتطلب جهدًا في أجواء مشبعة بالحزن والشجن والألم، وأعيادنا لحظات من تلك الأوقات التي نستعيد فيها جزءًا من بهجتنا وسعادتنا، نحاول معها أن نتجاوز ما نمر به في زمن ضنّ علينا بالأمن والمحبة، نصنع معًا حالة من السعادة نفتقدها على مدار السنوات، فتأتي الأعياد كنسمة هواء في قيظ صحراوي، أو كقطرة مطر في جوف عطش، القطرة التي نستعيد معها براءة طفولتنا، وأمان الأحباب أمهات وآباء أيام صبانا السعيدة.

هكذا نستقبل عيدنا نحاول أن نجعل من أيامه سعادتنا المفقودة بحكم واقع ازداد شراسة وشرهًا، تملأ أجواءه أنشودة المحبة والإيمان، بينما نسير في أحياء وشوارع تغيرت ملامحها بفعل الإنسان والأحداث نردد بشوق أدعية أيام العيد والحج نستعيد في قلوب النداء “لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك” إنها أنشودة الشوق للمكان والزمان والرجال، أنشودة الشوق للإيمان والصبر والعمل والتضحية.

التضحية هنا حينما أذكرها لا تعني تضحية الفداء العظيمة في نبي قبل راضيًا أن ينفّذ الأمر الإلهي بذبح وليده، ونبي قبل تنفيذ رؤية أبيه النبي وأبي الأنبياء، وفداء رب العزة لهما بالفداء والأضحية، ليس فقط في معاني موقف سيدنا إبراهيم وإسماعيل والله سبحانه وتعالى، بل في كل معنى للتضحية عبر تاريخ أمة بنت نفسها على الفداء والتضحية.

هكذا تأتينا عبر المكان مكة المكرمة والمدينة تلك الأحداث التي قامت على تضحيات رجالها من أبناء الدعوة الإسلامية في بدايتها من الصحابة الكرام، استطاع هؤلاء الصحابة وبقيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الرشدين من بعده وسلسال طويل من أبنائهم أن يقيموا دولة امتدت شرقًا إلى الصين وغربًا إلى الأندلس، وبقيت لنا منها ذاكرة أو ذكريات فلم تعد تلك الأمة كما بدأت، وتركت تلك الأحداث وهؤلاء الرجال في قلوبنا بهجة ممزوجة بالألم بهجة البنفسج الحزين.

نستعيد قيمة التضحية ونحن عاجزين عن الفعل الحقيقي لها، إن كنا نحاول تجاوز هذا العجز الأممي، افتقدنا المعنى الحقيقي للتضحية فصرنا كغثاء السيل، نعجز أمام أحوالنا الإنسانية الشخصية، ونعجز عن مواجهة قضايا أمتنا من فلسطين، إلى أقطارنا المشبعة بالفرقة والاستبداد والطغاة.

يا الله ها هو الكيان الصهيوني يعربد في فلسطين، ونحن أمة لا تملك شيئًا، كان صوتنا يعلو أحيانًا بالشجب والإدانة، فلم نعد كذلك، كنا نتعاطف فنرسل بعض المعونات فأصبحنا عاجزين، بل أصبح في كل دولة من الدويلات المفتتة ويلات كبيرة حتى صرنا نقول إن فلسطين بتضحيات أبنائها هي الوطن الوحيد المحرر في أرضنا العربية، فما أبعدنا عن مفهوم التضحية لمن بنى، علّم، ساد، وأقام دولة كبرى تساهلنا جميعًا في تفتيتها وتجزئتها، وتأخرها.

بهجة البنفسج

قلوبنا جميعًا تحمل من الشجن والحزن ما تنوء عنه الجبال، وبالرغم من هذا نحاول أن نصنع البهجة، بهجة التهاني بعيدنا، نبتهل إلى الله ليخفف عنا تبادلنا لأيام “الله أكبر الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله” نسعى بها للجوء إلى الله ليخفف آلام الأحمال الثقيلة، ندعو لبعضنا بالخير، وأن يعيد علينا الأعياد في حال أفضل، نوراي في داخلنا الأحزان لنطبع بهجة على وجوهنا، وبيننا.

أبعدتنا المسافات عن الأحباب، فتغربنا جميعًا، غربة اختيارية بسبب الأزمة الاقتصادية في معظم دولنا الإسلامية، أو قسرية لاستبداد الأنظمة في تلك الدول، لكن نحاول أن نصنع لمتنا عبر وسائل التواصل مع الأرض، الأهل، الأصدقاء، وذكرياتنا هناك في أرض المنبت والصبا الأولى.

يوم عرفات تلقيت دعوة كريمة من أخ الغربة لإفطار يوم وقفة العيد، ليست دعوة واحدة في عيد الاغتراب عن الوطن، دعوات عديدة، يخفف بها الداعون عن أنفسهم وعن رفاق الغربة، يتجمعون فيشعرون ببهجة التجمع، وألفة اللقاء، يعوّضون المفقود في حياتهم من عادات وتقاليد وقيم.

يقابلني من الدول العربية والإسلامية كلها أناس في ساحات المساجد في صلاة العيد -في صلاة الأعياد- يتهامسون “لا عيد في غربة قسرية أو اختيارية” تلك الجملة التي تسمعها هنا حتى من الزائرين فترات قصيرة، يقولها السوري كما المصري، وكذلك النيجيري المغترب، فالأعياد في الأوطان وإن كانت مأزومة بهجتها مختلفة، في ساحات المساجد يلتقون يحاولون أن يصنعوا بهجة البنفسج، تلك المصنوعة بين المشاكل والآلام والأحزان، أنهم يضحكون بقلوب منكسرة، يمرحون بنفس يملؤها شوق البعد واللقاء، نتبادل التحيات بعيون يحيطها شجن ويطل منها حزن، ولكنهم يصنعون بهجة لأيامهم.

لست معلمًا ولا فقيهًا، ولا زعيمًا، بل مواطن لا يسعى إلا إلى عيون صافية، آمنة، لا تتهجر ولا تلجأ لأوطان أخرى بحثًا عن أمانها وأمان مستقبل أجيال قادمة، أرى في كل مناسبة مساحة لأتذكر معانيها، وتأثيرها، افتقدها في أمة كانت لها السبق في الوحدة والعلم والقوة، أحاول أن أبحث عن نقطة ضوء في نهاية نفق الأمة، التذكر والتفكر جزء من سعي المستقبل، اليوم بينما نتبادل أمانينا لبعضنا بعضًا بالخير، تعالوا نسعى للتفكير والبحث عما يحيل بهجتنا في أعيادنا إلى سعادة استعادة الوعي فالمستقبل فالقوة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان