حياة حميدتي أو موته.. أين الحقيقة؟

حميدتي

 

كثير من الذين شهدوا بداية الحرب في السودان، ظنوا أنها ستكون خاطفة، أيام وتعود الطائرات العسكرية إلى مدرجاتها، والقوات إلى ثكناتها، وينزوي الجنجويد، وتزدهر الحياة مرة أخرى، ويعلن أحدهما -البرهان أو حميدتي- خطاب النصر من داخل القصر الرئاسي، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث.

البرهان خرج من غرفة العمليات ثلاث مرات، وظهر وسط جنوده ببندقية قنص وقبعة غريبة مثل رعاة البقر في أمريكا، أما قائد قوات الدعم السريع، فقد ظهر في لمحة خاطفة وحيدة عند مدخل القصر الجمهوري، مع بداية الحرب، ثم اختفى طويلًا، وتناسلت روايات موته، لتغطي على كل محاولات نفيها، فأين الحقيقة؟

حميدتي.. آخر ظهور

السؤال الذي حاصر جميع مستشاري حميدتي، يتعلق بمصيره: أين هو الآن؟ ولماذا كف عن الظهور والمقابلات الصحفية؟ لقد فشلت جميع محاولاتهم لإقناع الجمهور بمكان وجود قائد التمرد، والمنطق وراء ذلك الاختفاء المفاجئ، لدرجة أنه تحوّل إلى ظاهرة صوتية، يخرج في تسجيلات بين حين والآخر، تخضع أحيانًا لعمليات المونتاج والذكاء الاصطناعي، وآخر المستجدات حوله، مكالمة دارت بينه وبين وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، نشرتها صفحات الدعم السريع التفاعلية، وسط حالة من التشكيك، لدرجة أطلق فيها رواد مواقع التواصل الاجتماعي على حميدتي لقب المرحوم، وعبارة نعي اشتهر بها أنصاره (دنيا زايلة وزايل نعيمكي) وهو القائد العسكري المولع بالإعلام، وشديد الحريص على الالتحام بقواته التي يباهي بها، وهذا مؤشر إلى أن محاولات إظهاره للعيان تواجه صعوبة كبيرة، ولا تفسير لذلك سوى أنه مصاب أو خائف أو ميت، ميتة فاجأت من حوله، وكل ما يجري الآن من اقتحام للبيوت، وتدمير للبنوك والمؤسسات الحكومية، واغتصاب للنساء، محاولة للانتقام لمقتله، لأن الطريقة الوحشية التي ظهرت بها قوات حميدتي مؤخرًا داخل الأحياء، لا تفسير لها، سوى الانتقام أو غياب القيادة المركزية وفقدان السيطرة على الميدان.

حرب الجنرالين

لو كانت هذه الحرب تدور في مكان آخر غير السودان، ربما لم يكن السؤال عن مصير قائد الدعم السريع مهمًّا، لأن الحروب عادة تدور حول قضايا وأسباب موضوعية، وليس حول أشخاص، لكنها هنا تتعلق بالأشخاص وطموحاتهم، حتى أن البعض أطلق عليها حرب الجنرالين، البرهان وحميدتي، بما يدور في مخيلة العامة من تصورات، أي منهما أكثر قوة وصلابة؟ ولمن الغلبة في نهاية الأمر؟ لا سيما وأن التحركات الأخيرة للجنرالين، غلب عليها التنافس الشخصي، واستعراض الجيوش، والبحث عن حلفاء داخل السودان وخارجه، بشكل أوضح أن المواجهة قادمة لا محالة، تنقصها فقط رصاصة أولى، وإن كان سؤال من الذي أطلق الرصاصة الأولى لم يعد مهمًّا، فالحرب أولها كلام، وقد سبق السيف العذل، وبدا كثير من الناس قبل يوم 15 أبريل/نيسان 2023 يغادرون الخرطوم، وأرسل بعض قادة الدعم السريع والجيش أسرهم إلى خارج السودان، بما في ذلك أسر حميدتي وشقيقه عبد الرحيم، لتدور رحى الحرب في شوارع العاصمة الخرطوم وداخل المستشفيات والمتاحف، وفي بيوت الناس “الغلابة”، وتدور أيضًا معارك أخرى فوق أجساد النساء.

سيناريو الحريق

يصعب تصديق أن حميدتي جهز كل هذه الجيوش، وصنع إمبراطورية اقتصادية هائلة وتحالفات خارجية، وقفز قفزة في الظلام ليجلب الديمقراطية إلى شعب السودان، كما ظل يردد في خطاباته الأخيرة، وهو الذي شاركت قواته من قبل في قتل الثوار، وفض اعتصام القيادة، وخطط وموّل انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، كما كان يعتقل عددًا من الضباط والناشطين السياسيين في سجون سرية دون محاكمة، وأعاق هو وشركاؤه في قوى الحرية والتغيير قيام الانتخابات، بحجة أنها سوف تأتي بالإسلاميين. فكيف يكون داعية للديمقراطية والحكم المدني، وهو بكل هذه الروح العدائية لإرادة الشعب، والرغبة في الانتقام والتشفي من خصومه؟ إلى جانب ذلك، فقد شيد عشرات المعسكرات الحصينة، وأعد قواته لحرب مُدن طويلة، وتعاقد مع شركة فاغنر الروسية، ومد حبال الوصل مع الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر ومع تل أبيب أيضًا، وصنع قوة عسكرية موازية للجيش تحت عين البرهان وهيئة الأركان، التي سمحت له بأن يُدخِل حصانه الخشبي إلى داخل أسوار القيادة العامة، ويهاجمهم عن قرب، كما رأينا في ملحمة طروادة، وقضم حميدتي قضمة كبيرة، حتى أصبح من أثرياء السودان وأفريقيا، بثروة تُقدَّر بنحو 10 مليارات دولار، وأصبحت كذلك تراوده أحلام إمبراطورية.

حكايات سريالية

في الحقيقة لا أحد من الصحفيين يعرف أو متأكد من موت حميدتي أو حياته، حتى المقربون منه حُجبت عنهم الحقيقة، وقد نُسجت عشرات الروايات حول كيفية موته، منها أنه أصيب برصاصة في رقبته، وأُجريت له عملية خطيرة تسببت في رحيله بعد ذلك، ومنها من يزعم أنه موجود في مكان آمن، وسيخرج كطائر الفينيق من رماد صمته، ويتجلى كالأبطال في زي المنتصرين، لكنها روايات سريالية في زمان الحرب، لا يبدو أنها سوف تؤثر كثيرًا على مجريات القتال، والصحيح أن قائد الدعم السريع -حيًّا كان أو ميتًا- هو مجرد بيدق على رقعة السودان، تحركه أيادٍ خفية، ويمكن أن تتخلص منه كما تخلصت من الزعيم الجنوبي جون قرنق بعد أن قام بالمهمة المطلوبة منه، هذه ليست حرب حميدتي ولا شقيقه، وليس لها علاقة بالشعارات الوطنية، وإنما هي حرب الكبار للسيطرة على موارد السودان.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان